خرج لبنان من حفرة الفراغ الرئاسي ليجِد نفسه أمام مُثلث مائي يربطه بقبرص وإسرائيل مُهدِّداً بابتلاع كميات كبيرة من الغاز والنفط، يفترض أنها تدخل في نطاق الملكية البحرية اللبنانية. بعد سنوات من الانقسام والمزايدات بشأن هذا الملف، استحقّت الدولة ثمن تراخيها واستهتارها بالثروة التي يعوم فوقها بحر لبنان. لا شكّ في أنَّ قدراً لئيماً جعل من هذا البلد مطمعاً إسرائيلياً، لكن ذلك لا يُعفي من بيدهم الأمر من مسؤولية وصول الأمور إلى ما وصلت إليه.منذ نحو أسبوعين، خرجت الصحافة الإسرائيلية بخبر عن «توجّه الحكومة الإسرائيلية والكنيست للتصديق على ترسيم الحدود البحريّة بهدف التنقيب عن موارد طبيعيّة واستخراجها، بهدف ضمّ منطقة بحرية غنيّة بالثروة النفطيّة والغازية تبلغ مساحتها نحو 830 كيلومتراً مربّعاً.

وعن نيّة تل أبيب ضم جزء من المناطق النفطية اللبنانية إلى مياهها الإقليمية». أثار هذا الواقع المستجدّ حفيظة المسؤولين في لبنان، فبدأوا بالتحرك، وخصوصاً بعد أن تصاعدت وتيرة التنبيهات من أن تكون الخطوة الإسرائيلية بمثابة شرارة حرب، لم يتأخر رئيس مجلس النواب نبيه برّي بوصفها بـ «شبعا بحرية». فجأة أصابت اليقظة الجانب اللبناني، واستدعته لمواجهة «العدوان» الإسرائيلي (القديم ــ الجديد) الذي يحاول قضم جزء من ثروة لبنان النفطية. غير أنَّ هذا الاستدعاء لا يخفي مكامن التقصير اللبناني الذي وضع الملف سابقاً على رفّ الخلافات والعراقيل الداخلية لمدّة ثلاث سنوات. فما هو «الخطأ» الذي أسهم في جعل «الملكية البحرية» مشرعّة أمام العدوّ الإسرائيلي؟
مصادر وزارية أعادت المشكلة إلى عام 2007، حين وقّعت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة اتفاق ترسيم حدود بحرية بين لبنان وقبرص. غير أنَّ الخلافات السياسية الحادة آنذاك منعت ترحيل هذا الاتفاق إلى المجلس النيابي، فاعتبرت الاتفاقية غير مُلزمة. وبعد سنتين، أصدرت الحكومة قراراً بشأن ترسيم الحدود البحرية وأرسلت إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة خرائط تتعلق بالحدود البحرية الغربية للمنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة مرفقة بلائحتي إحداثيات، إحداهما للنقاط المحددة للحدود البحرية الجنوبية (بين لبنان وفلسطين المحتلة)، والثانية للجزء الجنوبي من الحدود البحرية الغربية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان بين قبرص ولبنان. وطلبت من القوات الدولية ترسيم الحدود فرفضت، بحجّة أن المهمة لا تدخل ضمن التفويض الممنوح لها! وعام 2011، وقّعت قبرص اتفاقاً مع الكيان الإسرائيلي، أفضى إلى الاستيلاء على مئات الكيلومترات المربعة من المساحة البحرية داخل الحدود البحرية اللبنانية، وكانت مئات الكيلومترات قد قُضمت في خلال توقيع الاتفاقية مع لبنان، ما أفقد الأخير مساحة من المنطقة الاقتصادية الخالصة. وهنا بدأت المشكلة الحقيقية، حيث نشب خلاف ديبلوماسي، بعد تأكيد الجانب الإسرائيلي أنَّ النقطة الشمالية للحدود البحرية الإسرائيلية - القبرصية هي نفسها بالضبط النقطة الجنوبية في الاتفاق اللبناني - القبرصي، فيما اعترضت الدولة اللبنانية وتمسّكت بالخرائط التي أرسلتها إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة والتي تتضمن ترسيم الحدود البحرية كامتداد للحدود البرية.

جزء من المسؤولية يقع على الجانب اللبناني في ترسيم المساحات البحرية


«سوء إدارة». بهاتين الكلمتين، اختصرت مصادر وزارية سابقة في حكومة الرئيس السنيورة الإجابة عن سؤال حول مسار هذا الملف. واعتبرت أن «المزايدات السياسية التي حصلت في الحكومة والمجلس كانت سبباً أساسياً في وصولنا إلى هذه النقطة». ومن الأسباب الرئيسية للخطأ بحسب المصادر كان «في تعهّد قطعته جهة رسمية لبنانية نافذة للأتراك بعدم توقيع أي اتفاق مع قبرص لا توافق تركيا عليه، وهذا ما سبّب تأخيراً إضافياً، فوجدنا أن الأحداث تسبقنا، مع توقيع الاتفاق بين إسرائيل وقبرص». وأضافت المصادر أن «تداخل الحسابات الصغيرة والشهوة المالية عند البعض وعدم الخروج بموقف لبناني موحّد منعنا من قراءة الواقع الإقليمي حتى وجدنا أنفسنا خارج الحلبة، بعدما تلهينا بلعبة المحاصصة وقواعدها السياسية والطائفية».
مصادر نيابية في لجنة الطاقة والمياه لفتت إلى أن ما «يحصل اليوم هو نتيجة الخطأ الذي وقع خلال ترسيم الحدود ورسم الخرائط، ما سبّب خسارة نحو 830 كلم مربّع». وفيما لم تنفِ المصادر أن «جزءاً من المسؤولية يقع على الجانب اللبناني في ترسيم المساحات البحرية»، غير أن ذلك «لا يعتبر سبباً للتعديات الإسرائيلية». وأشارت المصادر إلى أن «مجلس النواب ليس هو من يتحمّل هذه المسؤولية، بل الجهة التي كانت مخوّلة إجراء المسح البحري». وأكدت المصادر أن «قبرص لم يكُن يحق لها توقيع الاتفاقية مع إسرائيل بغياب لبنان»، وأننا «كنّا قد تحفظنا عن هذه الخطوة عند الأمم المتحدة». وبالنسبة إلى الجلسة التي تعقدها اللجنة اليوم، فستؤكّد «أحقية لبنان بهذه المساحة»، وستطالب بـ «إعادة تثبيت الحدود ما بين لبنان وقبرص، وتدخّل الأمم المتحدة».