1

تاريخياً، اتخذت الضرائب أشكالاً عدة: دفع جزية مقابل الحماية من القتل أو السرقة، تأدية أعمال سخرة، مساهمة في تمويل الجيوش والحروب، تقديم ضحايا للآلهة... وصولاً إلى دفع مبالغ معينة من أجل خدمات محددة.

التحول الأهم في مفهوم الضريبة كان اعتماد الضريبة التصاعدية على المداخيل، في إطار إعادة توزيع الثروات بشكل عادل. حصل هذا التحول في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد ترافق ذالك مع تعميم التأمينات الاجتماعية، ومأسسة المفاوضات الجماعية والحق بالتنظيم النقابي. على المستوى السياسي، جاءت هذه التحولات بموازاة إقرار مبدأ الاقتراع العام، كعنصر أساسي من عناصر الديمقراطية.
دلت دراسات معاصرة على الترابط الوثيق بين الضرائب من جهة ومستوى الديمقراطية ومؤشر التنمية البشرية والعدالة الاجتماعية من جهة ثانية. كلما ارتفع ثقل الأولى في الناتج المحلي، كلما ارتفع مستوى الثانية والثالثة. والتأثير متبادل بين الثلاثة. وقد شكل الإنفاق على التعليم عامل وصل أساسياً بين هذه المستويات.

2


في الإطار اللبناني، انتقلنا من الضريبة والسخرة التي فرضها العثمانيون على الفلاحين بواسطة الولاة والإقطاع، إلى الضرائب الليبرالية المخفّفة على الرساميل إبان دولة الاستقلال وحتى الحرب، مع نزعة ضرائبية إصلاحية في المرحلة الشهابية. خلال الحرب استمرت السياسة نفسها، إضافة إلى الخوات الإضافية من قبل الميليشيات والقوى الخارجية المهيمنة على الأرض. بعد الطائف وابتداء من 1992 سيطرت النزعة الاقتصادية النيوليبرالية، مركزة على الضرائب غير المباشرة على حساب الضرائب المباشرة التصاعدية، في ما سمي بتحويل لبنان إلى جنة ضريبية، أي خال من الضرائب المهمة على الرساميل.
ترافقت هذه السياسات مع تراجع الممارسة الديمقراطية في البلد، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وتقلص التقديمات الاجتماعية... في ظل شبه غياب للحركة النقابية التي جرى استتباعها لقوى السلطة.

3


التحرّك الشعبي ضد الضرائب الجائرة، يجري اليوم، في ظل هذه المعطيات الاجتماعية والسياسية والنقابية. وقد سبق وأشرت إلى ترابط العناصر الثلاثة. أي إن معركة الضرائب تجرى بمعزل عن حليفيها التاريخيين، الديمقراطية والحركة النقابية! لكن، رغم ذلك، لا ضرورة على الإطلاق، لا بل من الخطأ، رفع شعارات سياسية إلى جانب المطلب الضريبي، فهو يختزن بحد ذاته مدلولاً ديمقراطياً، بعيداً من التجاذبات السياسوية التي تقسم المتضررين، بحسب التجارب المتعددة السابقة.
على الحراك ضد الضرائب الجائرة، ألّا يشيطن الضرائب بحدّ ذاتها، فهي ضرورية للتقدّم الاجتماعي والسياسي. والشيطنة للضرائب مبررة في الوعي الجمعي اللبناني: من الضرائب العثمانية إلى خوات المليشيات والاحتلالات، إلى سرقة محاصيل الضرائب وهدرها من دون تأمين الخدمات العامة، إلى تقليص قدرة الناس على المراقبة والمحاسبة. كلها عوامل تبعدهم عن فهم الدور التقدمي للضرائب.
باعتقادي، وبعكس ما هو ظاهر، لا يلجأ المتزعمون إلا مكرهين للضرائب لتمويل الموازنة، ليس فقط محاباة لحلفائهم الطبقيين في القطاعات المصرفية والريعية خاصة، بل هم يفضلون الإبقاء على العجز في الموازنة لاستبعاد المحاسبة من قبل الناس من جهة، وتمنين الناس بخدماتهم المجانية من جهة ثانية. هذه الخدمات التي يمولونها من سرقاتهم للمال العام أو من المال المتدفق عليهم من الخارج!
على المطلب الشعبي أن يكون إذن ذا شقين: ضد الضرائب الجائرة ومن أجل سياسة ضريبية عادلة. والشق الأخير هو ما يجب إبداعه والضغط من أجل تحقيقه!

4


انطلاقاً من ذلك، يمكن للحراك الشعبي ضد الضرائب، أن يقول ما يشاء عن دوافع الحريري وراء زيارته للمتظاهرين يوم الأحد 19 آذار: محاولة استيعاب، التفاف، تنفيس، تعويم سياسي لشخصه... وغير ذلك من علامات التشكيك! وقد يكون كل ذلك صحيحاً، لا أحد يدري إلا هو ومستشاروه!
كان يمكن للحريري أن يعود إلى بيته، فخوراً بنفسه، معتبراً أنه حقق « فتحاً» بالمعنى السياسي والدعائي للكلمة، رغم الشتائم التي تلقاها، وعبوات المياه والعصي التي رميت عليه. لكنه، فضّل أن يلحق بزيارته، وعبر تويتر، دعوة إلى منظمي التظاهرة «إلى تشكيل لجنة ترفع مطالبها لمناقشتها بروح إيجابية».
معظم قيادات الحراك غير متحمسة لتلبية دعوة الحريري. رغم ذلك، سأحاول تبيان، من حيث المبدأ على الأقل، الفوائد الممكنة لطرح الحريري بالنسبة إلى الحراك:
- فرصة للحراك لتكوين هيئة تنسيق أو لجنة تفاوض.
- فرصة للحراك لتوحيد وتوضيح مطالبه بالنسبة إلى السياسة المالية والضريبية.
- فرصة للحراك للاعتراف به كقوة سياسية مستقلة في البلد.
- فرصة للحراك للتفاوض مع السلطة الأساسية المسؤولة عن السياسات الاقتصادية منذ الطائف (بالشراكة والمحاصصة مع القوى السياسية الأخرى كافة).
- فرصة للحراك للتفاوض من موقع قوي، في وقت تراجعت فيه القوى السياسية الأساسية عن مواقفها تحت الضغط، وهي تسعى الآن لتلميع صورتها أمام رعاياها، على أبواب الانتخابات النيابية.
إن قبول التفاوض، لا يتعارض مع التظاهر أو التهديد به. فما الذي تخشاه قيادات الحراك إذن:
- عدم الاتفاق على قيادة موحدة أو على مطالب موحدة؟
- تسليف القوى السياسية نجاحاً، ولو نسبياً، في التجاوب مع المطالب الشعبية؟
- الربح على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي، والتراجع النسبي على المستوى السياسي - الانتخابي، لصالح القوى السياسية المتجاوبة مع المطالب.

5


سبق وأجريت مقارنة بين التحرك المطلبي الضاغط والنهج السياسي المعارض، في كتابي «في الاتحاد كوة»: ففي حين أن الجماعات الضاغطة توفق عادة بين الضغط والمفاوضة، واضعة نصب عينيها تحقيق المطالب، تتوسل المعارضة السياسية المطالب الاجتماعية والتحركات الضاغطة لتغيير الحكومة أو لإظهارها عاجزة. التحركات الضاغطة تنجح إذا بقيت الحكومة وأجبرت على تحقيق المطالب، أما المعارضة السياسية تنجح إذا وقفت الحكومة عاجزة عن تحقيق المطالب وأجبرت على الرحيل. التحرك الضاغط واقعي في مطالبته، لأن ما يقوله يجب أن يتفاوض عليه. المعارضة السياسية تميل إلى تضخيم الأمور، لأن ما تقوله لن تتفاوض عليه، فهو بالأساس غير موجه للسلطة السياسية بل إلى الرأي العام!
على الحراك المدني أن يختار بين النهجين، في ظل مناخ انتخابي طاغ. أرجو ألا يمزح معي احدهم ويقول لي، إن المصالح الانتخابية تتقاطع بالضرورة مع مصالح الناس في ظل الشروط الحالية لإنتاج قانون انتخابي! أو أن ينبري آخر ويقول: إن لا تحرك ضاغطاً ولا معارضة سياسية، بل ثورة حتى النصر!