قبل نهاية شهر شباط الماضي، أغارت الطائرات الأميركية على مطارَي الجرّاح والطبقة السوريَّين، اللذين يحتلّهما إرهابيو «داعش». كان هدف الغارات تدمير كامل مهاجع الطائرات في «الطبقة»، ونصف تلك التي في «الجرّاح». لا يملك تنظيم «داعش» قوة جوية. الغارات الأميركية رسالة واضحة للجيش السوري الذي يتقدّم نحو «الجرّاح»، انطلاقاً من جنوبي مدينة الباب.
بدا الأميركيون كمن يرسم الحدود بالنار: الشرق السوري، مع كل ما يعنيه، محرّم على الدولة السورية. يمكن هنا استعادة الاعتداءات التي نفذتها الطائرات الأميركية، مع بعض حلفائها، على مواقع الجيش السوري في دير الزور في أيلول 2016، ممهّدة الطريق أمام تقدّم لإرهابيي «داعش». وحتى اليوم، لم يستعد الجيش كل ما خسره حينذاك.
وفي اليوم الأخير من شباط أيضاً، كانت قوات خاصة أميركية تنفذ عمليات في وسط سوريا، ثم تعود، على متن مروحيات، لتهبط بسلام في موقع عسكري مستحدث لها، قرب مثلث الحدود السورية ــ العراقية ــ الأردنية. وهذا الموقع، داخل الأراضي السورية، قريب للغاية من معبر التنف الحدودي بين العراق وسوريا. المعبر الذي تمر به الطريق الأقصر بين دمشق وبغداد. وهنا مربط الخيل.
فنظرياً، لا علاقة بين الغارات الأميركية على مطارَي الجرّاح (ريف حلب الشرقي) والطبقة (ريف الرقة الجنوبي) ــ أي في الشمال السوري ــ وبين التحركات في التنف، أي في الجنوب الشرقي. لكن، كل الطرق تؤدي إلى الحدود العراقية ــ السورية، محور الصراع الدائر حالياً في بلاد الشام.
أبرز ما على هذه الحدود حالياً، خلوّها من أي وجود عسكري للدولة السورية. ينقسم «الخط الفاصل» بين الشام وبلاد الرافدين إلى 3 أقسام: قسم شمالي بيد الأكراد المدعومين من الأميركيين، وحزب العمال الكردستاني. قسم جنوبي بيد ميليشيات تابعة للاستخبارات والجيش الأميركيين (من معبر التنف شمالاً، إلى حدود محافظة السويداء جنوباً). وقسم ثالث في الوسط لا يزال بيد داعش. وفي هذه المناطق الثلاث، يضع الاميركيون ثقلهم.
لا يمكن فصل ما سبق عمّا قامت به القوات الأميركية أمس، أي الإنزال قرب مدينة الطبقة، لتقطع الطريق بين محافظتَي حلب والرقة. الجيش السوري يتقدّم في ريف حلب الشرقي. وبعد دير حافر، سينتقل إلى مسكنة، ومنها إلى الطبقة. وتحرير الأخيرة كان كفيلاً بفتح الطريق أمامه، ليصل مستقبلاً إلى محافظة دير الزور، عبر طريق محاذٍ لنهر الفرات. وهذا الطريق، يؤدي في النهاية إلى الحدود السورية ــ العراقية. لكن الأميركيين قرروا وضع خطتهم قيد التنفيذ: ممنوع على الجيش السوري أن يصل إلى الحدود. و«الكيان الكردي» الذي يتمدّد في الشمال الشرقي، هو «الأمر الواقع المستقبليّ» الذي تضع واشنطن رهانها عليه، لمنع التواصل البري بين دمشق وبغداد. إدارة دونالد ترامب ورثت هذه الخطة عن إدارة باراك أوباما. وتقول للمحور الذي عجزت عن إسقاطه في دمشق: «المنطقة التي تظنّون أنها مفيدة، ستبقى أرض استنزاف لكم. تنظيم القاعدة في بلاد الشام وحلفاؤه، المنطلقون من «إمارة إدلب» لن يكفّوا عن التحرش بكم، ومحاولة إسقاط مدينة حماه، وإشغال الجيش السوري في دمشق، ودرعا، وقصف اللاذقية. أما الحدود، فلمن يسبق إليها. ونحن حلفاؤنا السابقون».
كيف سيردّ محور دمشق ــ موسكو ــ طهران ــ بغداد؟ الإجابة ميدانياً عبر جبهتَي قتال: طريق تدمر ــ دير الزور، وزحف الحشد الشعبي من العراق إلى البادية الشامية. فهل تشتعل الجبهتان؟ وما هو موقف أكراد الشرق السوري؟ وكيف ستكون ردة فعل روسيا صاحبة العلاقة الممتازة بهم؟ وكيف سيتصرّف حزب العمال الكردستاني وعدوته تركيا؟ وماذا سيفعل حيدر العبادي الذي أعلن أمس معارضته خطة واشنطن «احتواء» داعش في الصحاري العراقية ــ السورية؟ (الاحتواء هنا يعني التوقف عن قتال التنظيم الإرهابي بعد تحرير المدن العراقية، وتركه ليتحوّل عامل استنزاف لسوريا).
من المبكر الإجابة عن هذه الأسئلة الآن. لكن الثابت أنَّ واشنطن تحاول الالتفاف، عبر الحدود، على كل ما أُنجز في سوريا والعراق، طوال السنوات الست الأخيرة من الحرب.