لم نعد نذهب إلى المكتبات كي نفتّش عن الشعر، إنه يقتحم حياتنا في المواقع الالكترونية من الجهات الأربع. صار الفايسبوك مثل صنبور مفتوح لعابري السبيل. ألف لايك يعادل طباعة ألف نسخة ونفادها بساعات، وفقاً لأوهام مئات الغزاة الافتراضيين الجدّد. هناك مواقع متخصصة لكل أصناف الشعراء والشاعرات، كما لو أنك تقف أمام رفوف المعلبات في سوبرماركت. اختر ما تراه مناسباً لذائقتك، بالفلفل الحار أو بالزيت النباتي. بغلاف معدني أو بلاستيك، بورد اصطناعي أو ورق الخس، بهايكو أو تصوّف.
ستتجاهل ركاكة النص أمام هول ابتسامة الشاعرة. إنه يوم عالمي للشعر (21 مارس)، أو كرنفال للغة التي تعبر المستنقعات بعكاز نقّاد ثعلبيين يصطادون بمكر، النصوص العرجاء، يشحنونها بما ليس فيها، على أمل الاستئثار بصداقات تتجاوز المجاز ومعانقة النص، نحو اشتباك حسّي صريح (!) هكذا انتقلت المعارك من الفضاء الأزرق إلى وحل الشارع بحكايات لا يمكن أن نرويها علناً، حفاظاً على كرامة الشعر وهيبة البلاغة، وسنتجنب المرور أمام دكاكين الشعر وفخاخ (الشعراء الكبار؟)، إلى شوارع جانبية تبزغ على أرصفتها نصوص مدهشة لا يلتفت إليها أحد إلا بالمصادفة. على الأرجح، هنا تكمن الشعرية الجديدة، في الأزقة الموحلة، وليس في المنابر الرسمية، ودمغة الرقيب. هناك جيل بلا سلالة شعرية وضعته الحروب في مهبّ بسالة العيش، يبتكر بلاغته الخاصة على مهل، يقتبسها من مفردات العنف وجحيم الربيع، وتدابير العزلة القسرية. نصوص عارية تتسلل في العتمة إلى الضوء، تخترع «حزامها الناسف»، و«مفخخاتها»، وقواربها المثقوبة، تشتبك مع «الحاجز»، وزحام الباصات، وضجيج الحانات، ثم هناك تلك الشهوانية المفرطة بلا خفر، تحفر، من دون خشية، في أوجاع الجسد وأشواقه، تتلمس التضاريس المخبوءة بمشرطٍ حاد. بين نصاعة الفكرة وسيولة الكلام الشفوي، وجد الشعر نفسه أعزل أمام وفرة الشعراء وندرة الصورة المبتكرة، بعدما سيطر «المعفّشون» على الساحة بكامل عتادهم، وبشجاعة الجهل وحدها، نسفوا الجسور مع نصوص الأمس، تحت بند القطيعة، إلى درجة أن يكتب أحدهم «أنتي»، بدلاً من «أنتِ» بلا ألم أو ارتياب أو محاكمة، مستغنياً عن قواعد النحو والصرف إلى الأبد. ربما على الشعر اليوم أن يتنزه بدراجة هوائية كي لا يختنق بعفونة اللغة، وأن يحتفل بصحبة حفنة من الشعراء وحسب، بعيداً عن طوابير مرضى الجذام الشعري، كأحدث طبعة من إفرازات الربيع المجهض.