على «الدرجة» يداوم سلام الشامي (73 عاماً) يومياً. يتلمّس، على المقعد الملون في ساحة جون، طيف نصري شمس الدين. هناك، كان يتحلق أهالي البلدة حول «مطرب الضيعة» وأصدقائه الذين كانت تذاع أسماؤهم في الراديو: فيروز والأخوان عاصي ومنصور الرحباني وفيلمون وهبة. توفي «الشيخ نصري» قبل 34 عاماً (18 آذار 1983)، وتفرّق الأصدقاء عن «بلد الحبايب». مذّاك، «بدأت جون تتغير» يقول الشامي. زملاؤه في «فرقة جون للرقص الشعبي» الذين رقصوا خلف شمس الدين في حفلاته وفي بعض مسرحيات الأخوين الرحباني وأفلامهما، منهم من غادر الدنيا ومنهم من غادر البلاد الى غير رجعة.
كان مقدراً للشيخ نصري أن يكون أستاذاً عادياً للغة العربية، فيما كان الشامي واحداً من الجونيين الذين لم يبلغوا صيدا إلا قليلاً. استقال الأول من المدرسة الجعفرية في صور بعدما ضبطه السيد عبد الحسين شرف الدين يعزف على العود ويغني لطلابه في الصف. قرر أن يصبح مغنياً. سافر إلى مصر وبلجيكا لدراسة الموسيقى قبل أن يعود إلى لبنان وتعتمده الإذاعة اللبنانية مغنياً ويبدأ مشواره مع الرحابنة. لكن شمس الدين لم ينفصل عن جون، بل قرر اصطحابها معه أينما حل.
في واحد من الأعراس التي كانت تقام في ساحتها، شاهد «الشيخ نصري» الشامي، ابن الستة عشر عاماً، يرقص الدبكة، فعرض عليه بأن يرافقه راقصاً في حفلاته. «من ساحة الضيعة وعين حيرون وطواحين النهر، وصلنا إلى السماء وبرمنا العالم» يقول الشامي. الأخير، مع عشرات من شبان البلدة وشاباتها، شكلوا فرقة جون للرقص الشعبي التي أسستها الرابطة الثقافية في الضيعة عام 1961. لاحقاً، تحول الشامي إلى مدرب للفرقة ومؤلف للرقصات ومخرج مسرحي بعدما تدرّب على أيدي غيتا الداية وبديعة جرار. بعض أفراد الفرقة رقصوا في مهرجانات بيت الدين ومسرحية «مواسم العز» وفيلمي «بنت الحارس» و»بياع الخواتم». جالوا في المناطق اللبنانية مع حفلات شمس الدين وصباح ووديع الصافي ورندة هاشم ومجدلا، من جباع إلى سبعل والدوير وحمانا وجبيل والشوف و... الأردن ودمشق. «شابات كثيرات جاء نصيبهن في الحفلات، فيما انصرف الشبان الى الدراسة أو العمل» بحسب الشامي. أما هو، ورفيقه حكمت شمس الدين، فتفرغا للرقص مع «الشيخ نصري».

شعرنا بالحرب بعده. الفرحة التي جمعت البلدة حوله ذوّبت الفوارق الطائفية والاجتماعية
عام 1965، اصطحبهما نصري، مع ناصر مخول (عازف البزق) وآخرين، إلى جولة في الأميركتين دامت ستة أشهر. من بيروت إلى مصر واليونان وبلجيكا وألمانيا، ومنها إلى المكسيك وفنزويلا والولايات المتحدة، هام القرويون على فطرتهم في البلدان الغريبة. طارت الأموال التي قبضوها من متعهدي الحفلات وانقطعوا عن التواصل مع الأهل. والدة الشامي كانت تنتظر على سطح بيتها مرور طائرة في الأجواء لتحمّلها السلام إلى ابنها. جاعوا وعجزوا عن تسديد أجرة الفندق وشراء تذاكر العودة، فاضطروا إلى العمل حتى تمكنوا من العودة اثنين اثنين على مراحل. بعد الأميركتين، اصطحب «الشيخ نصري» الشامي وبعض زملائه إلى بلدان عربية وأجنبية. توسعت أفق الشبان وجون على السواء: منهم من اشترى سيارة «آخر موديل»، ومنهم من صار موسيقياً وكاتباً ومخرجاً، فضلاً عن الزيجات التي تمت عن طريق مطرب الضيعة. إلهام، شقيقة الأخوين الرحباني، تعرفت إلى الياس حنا ابن جون، وهدى حداد، شقيقة فيروز، تعرفت إلى شوقي زيادة، ومخرج فرقة جون ريمون حداد تزوج بفريدة الشامي. ابتدع «الشيخ نصري» أدواراً لأصدقائه في أعماله الفنية. في طريقه إلى حفلاته ومسرحياته، كان يركن سيارته في الساحة لينقل معه محمد جعفر غصن وأبو غسان وفؤاد الكوسا ونعيم بربر، فيما كان محمود قاسم، سائق التاكسي، يتولى نقل أعضاء الفرقة.


«تيتّمت جون وتغيرت بعد نصري» يتحسر الشامي. «الفرحة التي جمعت البلدة من حوله، ذوّبت الفوارق الطائفية والاجتماعية في البلدة المختلطة. بدأنا نشعر بالحرب من بعده». الستارة التي أسدلت على مسرح جون بوفاته كانت أبشع من الغياب ذاته. «هل يعقل أن يعود فخر الدين (نسبة إلى دوره في مسرحية أيام فخر الدين) إلى جون بنعش مثبت فوق سيارة تاكسي؟» تساءل بغصّة. بعد سقوطه على مسرح فندق دمشق الكبير إثر نزف في الدماغ، نقل جثمانه بإيعاز من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، في موكب رسمي، إلى ضهر البيدر، حيث توقف بسبب الأحداث الأمنية. أنزل جثمان شمس الدين الذي رافقه ابن شقيقه عزت، ينتظر من يقلّه إلى جون، برغم أن نجله مصطفى أجرى اتصالات بمسؤولين رسميين وأمنيين وبالصليب الأحمر اللبناني لملاقاة الموكب. سائق أجرة تبرّع بعد علمه بصاحب الجثمان بنقله إلى جون «حتى ولو متّ على الطريق». دفن «فخر الدين» بعد أربعة أيام على وفاته في 21 آذار. في التشييع، رفض مصطفى «تسلّم وسام من رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل احتجاجاً على الإساءة» التي تعرض لها والده.

ضومط وسعدية ... براد الجمعية ومزراب العين





آمال خليل
تكشف الجلسات مع الجونيين كم استلهمت أغنيات نصري شمس الدين ومسرحيات الرحابنة من جون وأهلها. من على شرفة منزل والده، يشير مصطفى، نجل شمس الدين، الى أودية جون وحرج الصنوبر ودير المخلص. هناك، كان يجلس مع الأخوين الرحباني وجورج جرداق وفيلمون وهبة وآخرين لتحضير الأعمال الفنية. وليستمدوا الوحي، كان شمس الدين يدعو الأصدقاء والجيران بمختلف مستوياتهم الثقافية والطبقية، ليقصوا الحكايا واليوميات ويصحبوا الضيوف في جولة على أنحاء البلدة. حكايات كثيرة منها صارت مشاهد تمثيلية أو غنائية.
«سكتش» براد الجمعية الذي أداه شمس الدين (نصري) ووهبة (سبع) ومنصور الرحباني (مخول) عام 1964، مستمد من براد دكانة محمد غصن (أبو جعفر) في الساحة. كان الجيران يودعون مأكولاتهم في البراد الوحيد في الحي. بطيخة أم سليم التي وردت في «السكتش» هي بطيخة أم محمد التي اقترحت على أبو جعفر أن يضع بطيختها فوق البراد بعدما امتلأ و»يقويه شوي».
في مشهد «كاسر مزراب العين» عام 1961، كان حب «سعدى» و»عبدو» محاكاة لحب نصري وسعدى، إحدى بنات جون وللخلاف الذي وقع بين الجونيين بسبب كسر المزراب الذي يصب مياه عين حيرون في الجرن. شخصية المعّاز التي أداها منصور الرحباني في فيلم بنت الحارس تجسيد للراعي الجوني بشير المعاز. فيما مغامرات»جدي أبو ديب» في مسرحية «يعيش يعيش» مع السباع والضباع تحاكي روايات «أبو عفيف أشموني» الذي قاتل مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية. من بلدية جون التي تأسست عام 1887، استوحى الرحابنة الكثير: عضو البلدية الذي يغفو خلال الاجتماع في «بنت الحارس» وتراخيص البناء من البلدية في «المحطة» وطول أعمار المخاتير في «ميس الريم» وشخصية المختار في «بياع الخواتم». في الزواريب المحيطة بمنزل الفنان الراحل ميشال نبعة (تحول أخيراً إلى مقر للبلدية)، لاحق الفنان عبدالله حمصي (أسعد) فيروز ليطلق النار عليها في «بنت الحارس». وفي مسرحية «دواليب الهوا»، حاكى الرحابنة سوق جون، حيث كان الأهالي يقايضون بضاعة الباعة الآتين من خارج البلدة بزيتهم وزيتونهم.
أغاني شمس الدين كانت تصريحاً مباشراً عن جون. موال «برد الطقس ودارت المعاصر وبدو يجي السمّن والتينات عسلو ع أمن والعنبات ما في مين يلمن» يجول بصوته في أنحائها. خلال رحلة صيد في حرج الدير، كتب فيلمون وهبة أغنية «طلوا الصيادين». ومن مطحنة الشامي على النهر، كتبت «يا مارق عالطواحين» حيث كان العشاق يتلاقون على طريق المطحنة. أما عين حيرون فكانت ملهمة لـ»عالعين تبقي لاقيني» و»على عين المية يا سمرا»... الشاعر أسعد السبعلي وضع أغنية «ليلى دخل عيونها» بعدما التقى في منزل نصري بالفتاة ليلى معلولي. أما ابن البلدة ابراهيم عيسى فقد خلّد حب نصري لسعدى بأغنية «سعدية يا سعدية»، وكتب علي غصن «دقي إجرك». الأخوان الرحباني خلّدا قصص حب نصري بأغنية «يا دفتر الأيام والأشعار». أما نصري نفسه فقد خلد حبه لجون بأغنية «جون بلدي جون» في مسرحية «ناس من ورق». حتى أسماء العائلات في جون يتردد صداها في مسرحيات الرحابنة. مخول وبربر (مسرحيات الرحابنة) وضومط (مسرحية نزل السرور لزياد الرحباني) والخرياطي (مسرحية بالنسبة لبكرا شو؟).
في «ضهراية المطل» في جون، كانت الرابطة الثقافية (تأسست 1943) تنظم مهرجانات جون الصيفية. فرقة جون للرقص الشعبي وشمس الدين والرحابنة قدموا عروضاً في البلدة بمشاركة أبنائها. عيد الضيعة وعرس الساحة وعمّر يا معلم العمار (شاهين العريس) وغيرها، كلها مستمدة من وقائع حقيقية، أداها غناءً وتمثيلاً شمس الدين ووليم حسواني وناجي حداد وليلى عبود وروزيت خرياطي وملحم اللقيس وبسام الشامي وبديع خوري وليلى فواز وجوزف فواز والياس مزهر وغيرهم.