إذا كانت شرارة البوعزيزي الشهيرة صالحةً للتأريخ بوصفها حدثاً مفصليّاً في العالم العربي، فإنّ الحدث السوري طغى بجدارة على كل الأحداث التي أدرجت تحت خانة «الربيع العربي». ورغم أنّ الاضطراب هو السمة المُلازمة لمنطقة الشرق الأوسط منذ عقود طويلة، غيرَ أنّ ثلاثة من أحداثه تحوّلت وسوماً مفتاحيّةً لألفيّته الثالثة: الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (2005)، والحرب السورية (2011 - ؟).
ومهما اختلفت القراءات حول أسباب النكبة السوريّة ومسببيها، مساراتها وأحداثها، مستقبلها وسيناريواته، فثمّة مُسلّمات لا تحتمل الأخذ والرد. وعلى رأس تلك المسلّمات تأتي بديهيّة أنّ سوريا لم تعُد ذاتها، سواء في ما يتصّل بشؤونها الداخليّة، أو ما يتعلّق بموقعها على خريطة التأُثير والتأثّر في المنطقة. وللمرّة الأولى منذ عقود طويلة تحوّلت سوريا إلى ملعبٍ تتصارع النقائضُ والأجندات على أرضه، ولم تعُد لاعباً ذا فاعليّة استثنائيّة في ملفّات المنطقة ودول الجوار. وتنفرد الحرب السورية عن غيرها من أحداث المنطقة في الألفية الثالثة بكونها الوحيدة التي استدعَت هذا الحجم من الانخراط الإقليمي والدولي بأشكاله المختلفة: من الاستخباري إلى السياسي فالعسكري، وسوى ذلك. وبرغم أن كثيراً من الآمِلين «يُبشّرون» بأنّ الحرب متى تنتهِ تحملْ معها عودة الأمور إلى نصابها ليعاد «تشكيل المنطقة» وتتربع سوريا على قمّة هرمها، غيرَ أن المقاربة الواقعيّة تقتضي التسليم بأنّ هذا الكلام يندرج في خانة الإفراط في التفاؤل. ولا يرتبط ذلك بضبابيّة المشهد وشكل النهاية وميقاتها فحسب، بل يتعدّاه إلى حقيقة أنّ كل البلاد التي شهدت حروباً مماثلةً خرجَت منها مُستنزفةً على كل الصعد، ولزمتها سنوات طويلة من الانكفاء الداخلي لترميم نفسها. ويصعبُ وضعُ تصوّر دقيق لمآلات علاقات دمشق بمحيطها الإقليمي في مرحلة ما بعد الحرب، لأنّ الأمر مرتبط بطبيعة الحال بانتهاء الحرب وكيفيّة حدوث ذلك. وحملت سنوات الحرب معها تحوّلات كبيرة في موقع دمشق الدبلوماسي، وعلاقاتها مع دول العالم ومع جيرانها في الدرجة الأولى. وتكفي المقارنة بين نشاط الدبلوماسيّة السوريّة عشيّة «الربيع العربي» ونشاطها اليوم لتلخيص المشهد على هذا الصّعيد. ومن المفارقات اللافتة على سبيل المثال أنّ التواصل الدبلوماسي مع عواصم مثل الدوحة وأنقرة والرياض وباريس خلال عام 2010 كان مقارباً إلى حد كبير لمثيله مع طهران وبغداد وبيروت. ويكتمل المشهد مع استعراض الزيارات «الرفيعة» التي قصدت دمشق عام 2010 وحملت إلى دمشق زُعماء كثر من بينهم الرئيس الروسي (ديمتري ميدفيديف)، والفنزويلي (-هوغو تشافيز)، والإيطالي (جورجيو نابوليتانو)، والباكستاني (آصف علي زرداري)، والإيراني (محمود أحمدي نجاد)، والأرمني (سيرج سركسيان)، والرئيسة الهنديّة (ديفيسينغ باتيل)، علاوةً على رئيس الحكومة التركية (رجب طيب أردوغان)، ورئيس الحكومة الفرنسيّة (فرنسوا فيون)، وعشرة وفود أميركيّة! ولعب هذا الاستقطاب دوراً أساسيّاً في دخول دمشق عام 2011 «منتشيةً» بقفزات دبلوماسية متتالية تمّ تحقيقها منذ انتهاء عزلة بدأت حلقاتُها بعد فترة من الغزو الأميركي للعراق، وتبلورت أكثر مع القرار 1559 عام 2004 (الذي أفضى إلى خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 وبعد شهرين من اغتيال رفيق الحريري).

تحوّلت سوريا إلى ملعب تتصارع النقائضُ والأجندات على أرضه
في واقع الأمر لم يكن لبنان بعيداً عن مقدّمات تأجيج الأطراف الخارجيّة للأزمة السوريّة منذ بواكيرها. وثمّة محطات لافتة تفرض نفسها في هذا السياق، على رأسها انهيار ما عُرف بـ«س – س» (المبادرة السورية السعودية حول لبنان)، وهو انهيار شكّل مقدّمة لانهيار العلاقات السورية السعودية لاحقاً. وتجلى انهيار «س – س» في إسقاط حكومة سعد الحريري في كانون الثاني 2011 خلال اجتماعه مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، كجزء من مضاعفات ملف «المحكمة الدوليّة وقضيّة شهود الزور». (قبلها بأقل من ثلاثة أشهر كان الرئيس السوري بشار الأسد خلال مقابلة مع صحيفة «الحياة» قد استبعد تماماً أي تغيير للحكومة اللبنانية). وخلال العامين الأولين من عمر الأزمة السورية سجّل فريق 14 آذار فاعلية كبيرة فيها عبر «دعم المعارضة السورية» السياسية والمسلّحة و«الجهاديّة»، قبل أن تنحسر تدريجيّاً هذه الفاعلية وبتناسب عكسي مع فاعليّة فريق 8 آذار. العام السابع للحرب يعني أيضاً بدء عام سابع من انهيار العلاقات مع أنقرة، ومن المفارقات أنّ العمر الذهبي لشهر العسل السوري التركي كان زهاء سبعة أعوام أيضاً. وتنفرد تركيّا عن غيرها من الدول الجوار بكونها الجار الوحيد الذي احتلّ أراض سوريّة، وبكونه صاحب التماس المباشر مع واحدة من أشد بؤر الأزمة السوريّة تعقيداً (الشمال) مع ما قد يولّده هذا التعقيد من سنوت إضافيّة في عمر الحرب. ويطرح الملف الكردي نفسه بقوّة في موازين المستقبل بين دمشق وأنقرة، وسيكون من شأن خواتيم هذا الملف أن ترسم معظم ملامح العلاقات المستقبليّة بينهما. وتتسابق إسرائيل مع تركيّا في حجم الإفادة من الحرب لتسجيل أكبر قدر من الاعتداءات. وليس أدلّ على ذلك من أنّ حجم الاعتداءات الإسرائيليّة على سوريا خلال سنوات الحرب يفوق ما سُجّل منذ «اتفاق فض الاشتباك» عام 1974. وتكتسب هذه المعطيات أهميّة إضافيّة بالنظر إلى كونها تأتي في ظل انعطافة غير مسبوقة في العلاقات بين سوريا وحركة «حماس». ولا يمكن الفصل بين تحولات هذه العلاقة وبين الانهيار الذي أصاب علاقة دمشق بأنقرة من جهة والدوحة من جهة أخرى. وبعد أن شكّلت الأخيرة لسنوات طويلة «حليفاً استثنائيّاً» للحكومة السوريّة تحوّلت منذ عام 2011 إلى «عدوّ لدود». اضطلعت تركيّا (وما زالت) بدور «استثنائيّ» في الملف السوري وبمؤشرات صاعدة على طول الخط، ولعبت دور واجهة وقائد لمحور كامل هو المحور «الإخواني» من أنقرة إلى الدوحة مروراً بحماس و«مصر مرسي» وطيف واسع ومهيمن على الواجهة من المعارضة السوريّة. وشكّل إقصاء الإخوان عن مفاصل القرار في القاهرة «شعاع أمل» بتحسن مناخات العلاقة بينها وبين دمشق، غير أنّ الدور المصري الإقليمي نفسه يمر بطور من الهشاشة غير المسبوقة منذ عقود بفعل عوامل داخلية (لا يمكن فصلها عمّا يدور في الجارة ليبيا) وخارجية تتداخل فيها أجندات السعودية وأنقرة والإمارات وقطر وبطبيعة الحال الولايات المتحدة. وما زال للأخيرة يدٌ طولى في المشهد السوري، لا سيّما بعد أن ضمنت الحرب احتلالاً عسكرياً لأراضٍ سوريّة يُعبّر عن نفسه بسبع قواعد في مناطق نفوذ «قسد» وبعديد آخذ في التزايد من «القوات الخاصّة». وعلاوة على صراع الهيمنة العالمي بين واشنطن وموسكو، تفرض العلاقات الأميركية – الإيرانيّة نفسها بقوة على مستقبل الحرب السورية، الأمر الذي ينطبق على المشهد العراقي. وإذا كانت العلاقات السوريّة – العراقيّة قد شهدت تحسّناً ملحوظاً خلال العامين الأخيرين، فإنّ هذا التحسن يأتي في وقت يمرّ به الجاران بظروف غير طبيعيّة. ويبدو الحكم على مستقبل هذه العلاقة ضرباً من «التنجيم» في ظل صعوبة الجزم بشكل «عراق ما بعد داعش» وصراع النفوذ الأميركي – الإيراني المستمر فيه، علاوة على تداخلات ملف «كردستان العراق» بملف أكراد سوريا والدور التركي في كليهما. ولا تقتصر التحولات التي تركتها الحرب في علاقات دمشق الخارجية على ما تقدّم، بل تنسحب على العلاقة مع الدول الحليفة وفي مقدمتها إيران وروسيا. ولعبت الحرب دوراً أساسيّاً في تحول التحالف السياسي إلى «التحام وجودي» بين دمشق وكلّ من الدولتين، إلى حدّ بات معه أي تحرّك بعيداً عنهما أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد. ويزيد من تعقيد الصورة أنّ مواقف طهران وموسكو التي تتقاطع في كثير من «العناوين السوريّة» تحمل تباينات في عناوين أخرى قليلُها سوري وكثيرُها إقليمي ودولي، لا سيّما العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة.

="" title="" class="imagecache-465img" />
عماد خالدي | للصورة المكبرة انقر هنا