حدث ذلك عام 1980. بعد ست سنوات على نشر نصي الشعري الأول في مجلة «الكلمة» التي كان يصدرها حميد المطبعي، أخبرني القاص موسى كريدي فيما كنا نستقل الباص الأحمر رقم 4 الذاهب إلى ساحة الأندلس، أنّ كتابي «أناشيد السكون» (وزارة الثقافة والإعلام، «دار الرشيد للنشر») الصادر لتوه في بغداد لا يمتّ بصلة إلى ما كنا نتداوله من مفاهيم خاصة بالقصيدة السبعينية (نسبة إلى ما كتبناه من شعر في سبعينات القرن الماضي). قال لي: «أنت سريالي. السريالية لا وقت لها. لذلك سيتعرض كتابك لسوء فهم لا يرحم».
من جهتي، فإنّ إعجابي برينيه شار منعني من الاقتراب من السريالية التي لم تعجبني فتوحاتها بالرسم وبالأخص ما فعله سلفادور دالي، وكنت معجباً بسير أبطالها وجولاتهم العبثية بين المدن وطريقة نظرهم إلى عقيدتهم كما لو أنها دين، وهو ما جعلهم يضعون أندريه بروتون في مرتبة القديسين.
بعكس ما كان يُكتب يومها، لم يكن «أناشيد السكون» كتاب ألعاب لغوية. كانت علاقتي باللغة تقوم على الافتتان. سحر التركيب اللغوي هو الذي جذبني إلى الشعر. كان الفراغ بين كلمة وأخرى، يرود بخيالي أماكن بعيدة. ترى ما الذي يقع في المسافة التي تفصل بين مفردتين لكي تكون الأبواق والطبول والكمنجات والقصف والهدير والعصف والانهيارات والبروق ممكنة؟ لم تكن اللغة الغرائبية تعنيني بقدر ما كنت مهتماً بالوصول إلى لغة، تصغي إلى نفسها بتأمل وتواضع.
لذلك، لا أزال حريصاً على أن لا يتسلل الغموض إلى ما أكتب إلا إذا كان من جنس المادة التي أعالجها. كما هو الحال مع غموض الوردة. فاللغة وإن كانت غامضة في أساسها من جهة كونها تحتمل سوء فهم عظيماً ومتشعباً، فإنها تكتسب مع الشعر نوعاً محلقاً من الغموض الذي يقع بين فواصل موسيقاها. فشاعر واضح وأليف وناعم مثل نزار قباني كانت تنبعث دائماً من بين جمله موسيقى غامضة المصدر.

لا أصدق أن مجتمعاً صار يقفز بين الأفخاخ والألغام مذعوراً، في
إمكانه أن ينتج فناً أو أدباً خالصاً

قبل «أناشيد السكون» وبعده، كانت لذة الكتابة لدي تنبعث من الاتصال المباشر والحميمي باللغة. لم تكن المعاني تشكل قوة جذب بالنسبة لي. العكس تماماً هو ما كان يحصل. غالباً ما كنت أضيع في لجة من التقاطعات الإيقاعية التي تنبعث أنوارها من داخل الجمل لتضيء طريقي وتمشي بي كما لو كنت أعمى. لذلك، لم أكتب قصيدة طويلة واحدة في حياتي. فالأمر كله يتعلق بومضة الضوء التي ما أن تضرب العينين حتى ينتهي كل شيء. ولكن أكنت هناك حقاً؟ أقصد في المنطقة التي تمكنني من اختراق قشرة اللغة وصولاً إلى ما تحتها؟ يومها، كان اشتباكي بالفنون البصرية قد اتخذ طابعاً مصيرياً. كنت ناقداً فنياً في العلن ورساماً في الخفاء. وهو ما دفعني إلى أن لا أسلم مصير كتابي الأول لمصممي دار النشر. لقد قررت أن أصنع غلاف كتابي بنفسي. كان علي أن أفكر بصرياً بما كتبته.
لم أكن محايداً. قلت: «لأصنع لوحة تكون بمثابة محاولة لاختراق الصمت»، ولأني كنت راغباً في أن يكون غلاف كتابي بمثابة لحظة وصل بين ما هو واقعي وما هو متخيل، فقد التقطت صورة كنت رأيتها في إحدى المجلات الألمانية. كانت تلك الصورة تمثل ستارة تشرق من ورائها شمس تخفي أجزاء من نافذة. قلت «هي ذي» ولكنها لم تكن كافية. حين عرضت الصورة على زميلي في العمل المصمم والرسام ليث سامي الذي مات بعد سنوات قليلة لأسباب غامضة، اقترح علي أن يهدد ذلك السكون ببقعة خضراء. كانت الفكرة ساذجة وسطحية غير أنها راقت لي يومها بسبب قلة حيلتي.
صدر الكتاب في الصيف بالرغم من أنه لم يكن كتاباً صيفياً.
علمني الشعر أن لا أثق باللغة. حين تستسلم للغة، فلا بد أن يكون هناك خطأ في مكان ما. ولأني كنت وما أزال أنظر إلى الشعر من زاوية شخصية بحتة كونه لا يصلح وسيلة للاتصال بآخر، لا يمكن العثور عليه في الحياة اليومية، فقد جعلت منه الباب الذي أطل من خلاله على حديقتي السرية. ما نفعني من الشعر هو ما سمحت للآخرين بالاقتراب منه. أما الشعر نفسه، فقد ظل متوارياً. صحيح أنني نشرت قبل «رأت مسافراً» الذي صدر عن «دار الغاوون» عام 2014، خمسة كتب شعرية غير أنني لا أفضل الحديث عن الشعر من دون الانغماس في الحديث عن الشعرية التي هي جوهر العالم.
في كتب السيرة والرحلات التي كتبتها بعد مغادرتي العراق ما يتجاوز الشعرية المتاحة في ظل تراجع الشعر أمام غزو الكتابة التي تتشبه به. ليس لديّ رأي إيجابي بما صار يكتب في العراق من شعر. بالرغم من بريته ونفوره وعزلته وغموض مصادره، فإن الشعر يتأثر بما يقع من حوله. مثله في ذلك مثل الفنون الأخرى. الشعر العراقي ليس في وضع يدعو إلى الاطمئنان. استبعد إمكانية استعادة العراق لمكانته الشعرية في ظل انحطاط ثقافي شامل هو سر الانهيارات المتلاحقة التي يتعرض لها المجتمع من غير أن يملك وسيلة واحدة لإيقافها. لا أصدق أن مجتمعاً صار يقفز بين الأفخاخ والمصائد والألغام مذعوراً في إمكانه أن ينتج فناً أو أدباً خالصاً، رفيع القيمة. هذه المرة أعول على النثر في مسألة إنقاذ الشعر من يأس لغته.