صهريج على مفرق عمشيت، شَغل فارس سعيد في صباح ذكرى «ثورة الأرز». كان النائب السابق وحيداً في مكتبه في الأشرفية، لا يهدأ هاتفه وهو يحاول حلّ مشكلة سائق الصهريج الذي أوقفته دورية أمنية. ولم يكد ينتهي من هذه المسألة، حتى انتقل إلى إنهاء ملفّ موقوفٍ آخر والتوسط لإدخال عاملات أجنبيات إلى البلاد. أشدّ الساخرين من حال سعيد، هو فارس سعيد نفسه، «بالأمس كنا نحاضر في الأزهر واليوم مشغولون بالصهريج».
الواقع نفسه ينطبق على فريق ١٤ آذار برمّته. في الأمس كانت «ثورة مليونية»، واليوم أصبحت مجرّد اجتماع بين أربعة جدران. طوال ١٢ سنة، لم يتوقف انحدار ١٤ آذار. ترافق ذلك مع تراجع اهتمام «شعبها» بها، بعد أن خذلته قياداتها وهو يراها تُقدّم التنازل السياسي تلو الآخر، بهدف ضمان حصّة لها في تركيبة السلطة، من دون أن تُحسن استخدام هذه السلطة وتقدّم للشعب ما يحسّن سبل عيشه. تسابقت القيادات، وقسمٌ منها كان يستقل طريق بيروت ــ عنجر بشكل دائم، إلى إلقاء الخطابات في الـ٢٠٠٥. ركبوا الموجة، مستفيدين من جو إقليمي ــ دولي كان يهدف إلى تغيير الواقع اللبناني. الساحات كانت تمتلئ بعشرات الآلاف، أرادوا إخراج الجيش السوري من لبنان وتحقيق «استقلال 05». الصور التي تستعيد ذكريات ذاك الإثنين عديدة.

يظهر تأسيس «أمانة السر» كأنه وراثة
للأمانة العامة أو إعلان «حركة تصحيحية»

ولكن حتّى هذه، يخف تأثيرها سنة بعد سنة. الكلام أصبح مُكرراً، عن ١٤ آذار التي غصّت الساحات بشعبها لعدّة سنوات. التخلي الأول عن الناس، كان حين انتقل القياديون إلى صالة «البيال». أما الطامة الكُبرى، فهي عندما اعتقد عددٌ من المستقلين «المثقفين» أنهم وحدهم من يستحق إحياء الذكرى، فانتهوا في مركز الأمانة العامة يُصدرون بيانات أسبوعية لا يتذكر اللبنانيون واحداً منها. قبل سنة، أشفق سعيد على نفسه في مهمّة لمّ شمل ١٤ آذار، بعد ترشيح العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية من قبل القوات اللبنانية وتيار المستقبل. بادر الرجل إلى إعلان انتهاء التنظيم السياسي لفريقه. إلا أنّ رفاقه رفضوا أن يمتثلوا لقراره، بحجة «نحنا ما بدنا نموت». هؤلاء تداعوا أمس إلى الاجتماع في البيت المركزي لحزب الوطنيين الأحرار في السوديكو لتأسيس «١٤ آذار ــ أمانة السرّ»، ليظهر الأمر ــ رغم نفيهم ــ كأنه وراثة للأمانة العامة أو إعلان «حركة تصحيحة». قسم من العتب على «الأمانة العامة» وأحزاب ١٤ آذار أنهم ابتعدوا عن القاعدة التي تبدّلت اهتماماتها، فما عادوا يتحدثون لغتها. خطابات رتيبة انتهت في الأدراج. هذا ما تُنذر به حركة «أمانة السر» التي تريد أيضاً الاجتماع كل أربعاء ظهراً لإصدار بيان! ما هو المشروع البديل الذي تُقدمه؟ لماذا سيعيد الجمهور منحها ثقته؟
إلى خارج قاعة الاجتماعات في بيت «الأحرار»، كانت تتسلل أصوات بعض المجتمعين الذين ينطلقون من ثابتة واحدة: مواجهة «الاحتلال» الإيراني وسلاح حزب الله. الحدّة في النقاش بينهم بانت حين وصلوا إلى بحث الفقرة الآتية: «(…) كما يؤكدون أنهم بتحركاتهم لا يريدون الاشتباك السياسي أو الاعلامي مع أي من الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية حول الملفات الداخلية انطلاقاً من إيمانهم بديمقراطية العمل السياسي والوطني». رأيٌ عبرّت عنه الناشطة سارة عسّاف، ينطوي على غياب الرضى عن كلّ مكونات الطبقة السياسية. نطقت عسّاف باسم كُثر يرون أنه «صحيح ننطلق من مسلّمة الخلاف مع حزب الله، ولكن أحزابنا تحالفت معه إما مباشرة أو عبر حلفائه. الخطأ هو في عدم انتقادها»، بحسب ما قال هؤلاء لـ»الأخبار». أما الرأي الآخر، فدافع عنه الصحافي نوفل ضو الذي أكدّ «أننا لسنا في اشتباك مع أحد. ولا يُمكن أن نُهاجم تيار المستقبل (مثلاً) و(عضو المكتب السياسي في «المستقبل») راشد فايد يجلس معنا». ولكن، يبدو أنّ الآذاريين لا يزالون محرجين من توجيه الانتقادات العلنية إلى تيار المستقبل والقوات اللبنانية، اللذين يقبلان بكامل شروط محور المقاومة في السياسة الداخلية. يستسهل «المستقلون» توجيه اللوم لـ»العدو» حزب الله، عوض أن يحاسبوا من تنازل عن «مبادئ ثورة الأرز». من وجهة نظر هؤلاء، «المقصود هو التأكيد أننا لا نتنافس مع أحد ولا نسعى إلى كباش».
سعيد الذي انكفأ أمس داخل مكتبه في الأمانة العامة (سابقاً) يعتمد أيضاً سياسة المهادنة مع الأحزاب الآذارية، لحسابات انتخابية خاصة بقضاء جبيل. فهو يهمه أن لا يعادي القوات اللبنانية التي يتقاسم معها جزءاً من القاعدة الشعبية. كان وحيداً بعدما تركه رفاقه لتأسيس «الحركة التصحيحية». يُبرر رفضه المشاركة في «أمانة السرّ» بأن الأولوية «ليست إدارة ١٤ آذار، بقدر ما هي تحديد خيارات هذا الفريق التي نسفتها قوى ١٤ آذار». يقول سعيد لـ»الأخبار» إنه في الأساس «لم يكن هناك تنظيم لفريقنا والأمانة شُكّلت في الـ٢٠٠٨». تماماً كما ترك سعيد المنبر عام ٢٠٠٥ للخطباء الكُثر، غاب أمس عن المناسبة. حزب الكتائب، مثلاً، الذي كان أول المنسحبين من الأمانة العامة والذي عرقل، إضافة إلى القوات اللبنانية، انطلاقة المجلس الوطني الآذاري، رفع أمس نخب استقبال الذكرى. يضحك مسؤول آذاري وهو يتذكر كيف أنّ الكتائب «كانوا يقولون لنا إنهم ١٤ آذار منذ الـ١٩٣٦ وإننا انتسبنا إلى الكتائب في الـ٢٠٠٥».