لا تزال خريطة الانتخابات النيابية منذ أشهر قائمة على ثابتتين، الرئيس سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يؤيدان تأجيلها ولا يريدانها إلا على أساس قانون الستين، والمسيحيون على اختلاف اتجاهاتهم مصرون على الانتخابات في موعدها وعلى رفض الستين. أما الثنائية الشيعية، فتتعامل بواقعية مع كلا الاتجاهين، ويؤثِران التريث في كشف ورقة موقفهما النهائي حتى تنجلي أكثر الصورة الإقليمية بكل أبعادها.
وإذا كانت مواقف القوى السياسية واضحة إلى هذا الحد، تكمن المفارقة في أداء كل واحدة منها، مع اقتراب موعد انتهاء ولاية المجلس الممدَّد له. وكلما مرّ يوم إضافي، تضاعفت العراقيل والمطبات في ما يتعلق بالقانون نفسه، وبالتحالفات التي يفترض بناؤها مبكراً. علماً أن مقاربة أداء هذه القوى تخلص إلى ملاحظة أساسية، وهي أن الحركة السياسية ــ الانتخابية، لا تزال محصورة بالقوى المسيحية على اختلافها. كل حديث أو تصريح أو اجتماع أو احتفال، يبدأ وينتهي بالانتخابات والتحالفات من دون أن ننسى فورة الاستطلاعات والمآدب الانتخابية الناشطة أخيراً. وإذا استثنينا التحرك الانتخابي الفاعل للوزير السابق اللواء أشرف ريفي في طرابلس، وسعيه إلى التوسع انتخابياً خارجها، لكان يمكن القول إن الانتخابات ستُجرى فقط في جبل لبنان وتمتد من جزين إلى بشري وزغرتا والبترون وزحلة. فحركة الحزب التقدمي الاشتراكي شبه معدومة، فيما ينتظر المستقبل كلمة السر، السياسية، والمالية، من أجل إطلاق ماكينته وتحريك عجلة الانتخابات، على أمل إرجائها.

يرى التيار نفسه في موقع متقدم يؤهله للبحث في اللوائح من موقع الشريك الأقوى

مسيحياً، من الواضح أنَّ الحركة الأكثر كثافة هي التي يشهدها التيار الوطني الحر، سواء من خلال ورشته الداخلية التي بدأت مبكراً وتتطور وفق برنامج عملي داخلي يتعلق بالمرشحين المحتملين، أو من خلال خوضه سياسياً معركة قانون الانتخاب وتقديم مشاريع متنوعة على بساط البحث. يتمتع التيار بأرجحية في هذا المكان، لكونه حزب العهد، أو بالأحرى الحزب «الحاكم» بحسب أدائه السياسي ــ والعائلي. علماً أن التيار، كحالة عامة، بات متقدماً شعبياً (مسيحياً) وفق استطلاعات موثوقة، ليس بسبب الخطاب السياسي فحسب، بل أيضاً لأن الرأي العام كما جرت العادة ينحاز تلقائياً إلى السلطة وإلى مقدمي الخدمات فيها. فكيف الحال والعهد في أشهره الأولى، ومجال الخدمات والمحسوبيات والتوظيفات واسع جداً؟ ويبدو التيار حتى الآن وكأنه يتعاطى حرفة من سبقوه في السلطة، آخذاً صنعتهم في تثبيت قاعدة تشبه تلك التي أسسها هؤلاء طوال السنوات الثلاثين الماضية. لكن التيار يعمل أيضاً من دون كلل على شغل الساحة السياسية كل يوم، ولا سيما في الشق المتعلق بقانون الانتخاب. ورغم أن المشاريع التي يتقدم بها تباعاً لا تزال تواجه بالرفض، إلا أنه يحتفظ لنفسه بميزة تقديم مشاريع قوانين، معتبراً نفسه أم الصبي، لأن المسيحيين هم الذين يريدون تغيير قانون الانتخاب الحالي، ولأنه يرى أن القوى السياسية الأخرى لا تقوم إلا برفض كل ما هو معروض عليها، من دون تقديم أي بديل جدي، سوى قانون الستين.
في المقابل، إن التيار بعد الحركة الشعبية الواسعة التي قام بها مع القوات اللبنانية منذ إعلان النيات بينهما، لا يمانع أن يجد نفسه، كما القوات اللبنانية في حالة مراجعة، ليس لانعكاس المصالحة شعبياً بتخفيف الاحتقان وطيّ صفحة الخلافات القديمة، بل لمفهوم ورقة إعلان النيات، ومستقبلها، بعد أشهر من المتغيرات.
بالنسبة إلى التيار، فإن ما قبل انتخاب الرئيس ميشال عون، ليس كما بعده، وهذه النقطة هي التي يرى أن على القوات تدارك أهميتها. فما حصل في الانتخابات البلدية (في خلال الشغور الرئاسي) من محاولات تنسيق وتوزيع أدوار والتلطي خلف العصبيات والعائلات، لا يمكن أن يتكرر في الانتخابات النيابية، خصوصاً في ظل رئاسة الجمهورية. وهو يرى نفسه اليوم في موقع متقدم يؤهله للبحث في اللوائح على الطاولة من موقع الشريك الأقوى.
في المقابل، تتحرك القوات انتخابياً منذ أشهر، وبدأت الاستعدادات الفعلية لها عبر حركة موازية، إن في قانون الانتخاب أو في جسّ النبض المناطقي حول أسماء ومرشحين، لكنها في مكان ما تبدو وكأنها فقدت المبادرة. لأن ما جرى في البترون، أقرب إلى ردّ الفعل لا الفعل، كذلك لا يمكن القوات أن تكرر الأسلوب نفسه في أي منطقة انتخابية أخرى، أو أن تبقى تلوّح بالتحالف مع قوى سياسية أخرى، ولا سيما المستقبل الذي يحتاج أيضاً إلى أن يكون على موجة إيجابية مع العهد في السنوات المقبلة، فلا يستفزه لأسباب معروفة. ثمة انطباع بأن يدَي القوات باتتا مكبلتين، وأن الأسابيع الماضية قللت من حجم اندفاعاتها وهي تحاول إثبات وجودها في الحكم. وليس تفصيلاً أن تتراكم بعض الخطوات الناقصة بخلال وقت قصير، وهي مسؤولية مشتركة بين من هم في الصف الأول. فمن جهة، تحرص القوات على المحافظة على إعلان النيات والتفاهم مع التيار، ولا سيما أن أي خروج منه، حتى لو لم يكن عشية الانتخابات، سيرتد سلباً على الشارع المسيحي، فكيف الحال والقوات تستعد لانتخابات تريد من خلالها زيادة حصتها في المقاعد النيابية وتأكيد شرعيتها ككتلة مسيحية كبيرة. ومن جهة أخرى تريد القوات أن تضاعف عامل الربح في الاستثمار الذي وضعته في انتخاب عون رئيساً، وأن تستكمل ما بدأته في خلال تأليف الحكومة، وتعوض ما خسرته من حصة كانت موعودة بها. لكن حسابات النيابة مختلفة، فحين تصل الأمور إلى وضع الأسماء والتوزيعات والحصص على الورق، تكبر الخشية من أن يطيح التيار والقوات ورقة إعلان النيات تحت حجج مختلفة. علماً أن أي خطوة من هذا النوع، وإن ظلت حالياً ورقة مستورة وسط محاولات الطرفين لتخفيف التشنج إعلامياً، سيكون مفعولها سيئاً «مسيحياً»، وهو الأمر الذي حرص التيار والقوات على تأكيد عدم حصوله عندما أبرم اتفاق معراب.
لكن للانتخابات النيابية حسابات أخرى وطعم آخر. لا القوات تريد أن تتحول حزب المعارضة في العهد، ولا التيار يريد أن يعطي مجاناً من كيسه. والرسائل «التهويلية» المتبادلة بينهما لم تفسد بعد كل الود، إذ لا يزال قانون الانتخاب يجمعهما، أقله حتى الآن من دون خريطة التحالفات وأسماء المرشحين. في انتظار حصول المكاشفة الواضحة بينهما... إذا صفت النيات.