سبق لنا الحديث في هذا المنبر وغيره في الممارسات الاستعمارية العنصرية للرجل «الأبيض» بحق «الأعراق» التي يعدها دنيا، وبالتالي فهي لا تستحق الحياة، مع أننا سنعود للحديث في حديث منفصل عن ممارساته بحق الرجل الأبيض أيضاً.
كندا تبدو بعيدة عن الممارسات الاستعمارية، وصفحات المؤلفات عن تواريخها المعتمدة في المدارس وعالم الأكاديمية يهمل تماماً الحديث في جرائم المستوطنين الأوروبيين بحق أهل البلاد، ولا همّ لقواد النظام سوى الحديث عن وسامة رئيس وزرائها الجديد وأناقته، ونشر صوره عاري الصدر وما إلى ذلك من التفاهات والقشور.
نحن لا نتحدث هنا عن ممارسات الاستعمار الأوروبي للقارتين الأميركيتين قبل نحو ستمئة عام، وإنما عن جرائم وفظائع ارتكبتها السلطات الكندية في القرن العشرين. بل إن الوصف الأدق لما ارتكبته المؤسسات الحاكمة في كندا بحق أهل البلاد من الهنادرة يرتقي إلى مذبحة جماعية وإبادة ثقافية.
ففي عام 1876 اتخذت الحكومة الكندية قراراً عنصرياً، بكل ما للمصطلح من تبعات مادية ومعنوية، يقضي بفتح مدارس داخلية (residential schools) لأطفال الهنادرة، أو لنقل: من تبقى منهم، بهدف «تطهيرهم» ثقافياً ومادياً من جذورهم وفرض اللغة الإنغليزية عليهم والقضاء على تقاليدهم. القرار الحكومي فرض على آباء الأطفال الهنادرة أو أولياء أمورهم تسليم أطفالهم للمدارس التي كانت بإدارة الكنيسة، وفي مقدمتها الكاثوليكية في المقام الأول، تحت طائلة عقوبات وحشية. كما منح القانون السلطات الكندية حق انتزاع الأطفال من عائلاتهم بالقوة وتكديسهم في تلك المدارس الداخلية. أما تطبيق القرار على نحو أوسع فبدأ في العقد الثاني من القرن الماضي.
هدف السلطات الكندية، الحضاري [!] من تصرفها الجنوني والوحشي القضاء على ما تبقى من حضارة الهنادرة، وأوْرَبَة من تبقى منهم. وبكلمات أخرى، الهدف كان جعل الثقافة الكندية «بيضاء»، وفق النمط الاستعماري الأوروبي طبعاً، إضافة إلى إخضاع السكان الأصليين على نحو كامل لهيمنة أوروبا العرقية أو الإثنية.
المؤرخون القليلون الذين بحثوا في تلك الجريمة الشنعاء تحدثوا عن انتزاع نحو مئة وخمسين ألف طفل هندري، ذكوراً وإناثاً من عائلاتهم، وزجّهم في تلك المدارس الداخلية التي انتشرت في مختلف مناطق الدولة الكندية. الأطفال الهنادرة عانوا الويلات في تلك المدارس المزعومة من نواح مختلفة، مادية ومعنوية. فمن ناحية منعوا من تكلم لغاتهم أو لهجاتهم الأصلية وفرض عليهم الحديث بالإنغليزية فقط. أما معاناتهم المادية فتمثلت في أمور مختلفة منها تعقيمهم بهدف القضاء على «العرق المتخلف» واستغلالهم جنسياً، ذكوراً وإناثاً. وهنا يمكن الاستفاضة في الحديث عن المعاناة النفسية والأخلاقية التي خلفتها ممارسات تلك المدارس «التحضيرية»! في نفوس الأطفال.
الأوضاع المريعة في تلك المدارس الداخلية تتمثل أيضاً في أن معدل الوفيات فيها كان يصل إلى 60% حيث تم دفن الآلاف منهم في أراضي تلك المدارس.
مع أن تلك السجون كانت تسمى مدارسَ، فإن المستوى التعليمي فيها كان متدنياً حيث تتم تهيئة الأطفال الهنادرة للعمل في خدمة الأوروبي وليس للارتقاء به اجتماعياً ليتساوى مع الرجل الأبيض «الأصيل». ومع أن الحكومة الكندية أصدرت عام 2008 اعتذاراً خجولاً عن تلك الجرائم، حيث اكتفت بتسميتها بأنها «لم تكن مناسبة»، إلا أن الواقع المرير لمن تبقى من أولئك الهنادرة وأطفالهم يوضح أن حكومات الرجل الأبيض ليست نادمة إطلاقاً، وأن اعتذارها صوري لا غير. فأوضاعهم الاجتماعية البائسة تعكس الأثر طويل المدى لتلك الجريمة. فهم يعانون مقادير بطالة مرتفعة وفقر مدقع وأمراض نفسية لا حصر لها تنتج مختلف أنواع الإدمان. فهم يعيشون في منازل مكتظة، ولا تتوافر لهم إلى الآن أولويات العيش الأساس المتوافرة للمحظوظين من «البيض»، مثل مياه الشفة النقية. إضافة إلى ذلك فإن مصير كثير من النساء الهنادرة غير معروف، بين اختفاء وضحايا جرائم القتل التي مارستها السلطات بحقهن.
التطور في حقول حقوق الإنسان وانتشار المعارف على الصعيد الكوني هو الذي أجبر الحكومة الكندية على تشكيل لجان تقصي، وليس يقظة ضمير متأخرة. فرأس المال لا ضمير له ولا يعرف سوى الربح، حتى لو قاد ذلك إلى حروب عالمية يسقط ضحيتها عشرات الملايين من البشر ودمار لا حدود له.
أخيراً، للتذكير، فإن كندا، كغيرها من دول الغرب الاستعماري، منخرطة في حروب لا نهاية لها خارج حدودها، ولو كانت تشعر بالندم حقاً لما اكتفت بالاعتذار الذي لا قيمة له ما لم يتبع بخطوات مادية تؤكد تراجع المؤسسات الحاكمة في البلاد عن نظراتها العنصرية الاستعلائية واتباع سياسات معاكسة تماماً. إضافة إلى الخطوات المبدئية وجب عليها فرض هذا الفصل من تاريخ استعمار الرجل الأبيض ضمن المناهج المدرسية. فجلّ الكنديين لا فكرة لديهم عن التواريخ الإجرامية للمؤسسات الحاكمة في البلاد، والتي يعيدون انتخابها عاماً بعد عام.
وعلى المؤسسات الحاكمة في كندا، منح مشاكلها الداخلية اهتمامها والكف عن محاولة فرض معاييرها العنصرية على شعوب العالم، إن كانت جادة حقاً في القطيعة مع ذلك الماضي الإجرامي والممارسات الاستعمارية المعاصرة. لكننا جميعاً نعرف المقولة «القحبة، ما أبلغها، عندما تحاضر في العفة».
أخيراً، للتذكير، آخر تلك المدارس الداخلية لم تغلقها الحكومة الكندية إلا في عام 1996.