باريس | افتُتحت في باريس أمس، جلسات إعادة محاكمة الثائر الأممي ذي الأصل الفنزويلي، أليتش راميريز سانشيز، الشهير بلقب «كارلوس»، في قضية تفجير متجر «دروغستور سان جيرمان»، في الحيّ اللاتيني بباريس. وهذه ثالث محاكمة لكارلوس بخصوص هذا التفجير، الذي وقع في 15 أيلول/سبتمبر 1974، بعد تبرئته في القضية ذاتها في خلال محاكمتين سابقتين، عامي 1983 و1999.
كارلوس الذي يصفه الإعلام الغربي بـ «الإرهابي الدولي»، عرّف عن نفسه في افتتاح المحاكمة بأنه «ثوري محترف». ولجأ إلى الفكاهة حين سأله القاضي عن سنّه، قائلا إنّ عمره «17 سنة، يمكن أن تضاف إليها 50 سنة أخرى على الأقل»! ونفى «الفدائي السابق» في صفوف «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» مسؤوليته عن «تفجير سان جيرمان»، قائلاً إنه يحترم الضحايا، لكنه لا يحترم من سمّاهم «أكلة الجيف». ثم عاد وأوضح أنه يقصد بذلك «التنظيمات الصهيونية التي تتاجر بآلام الضحايا».
كارلوس ندّد بما عدّه «محاكمة سياسية»، ساخراً من «الديموقراطية الفرنسية المزعومة، حيث 40 في المئة من الناخبين غير ممثلين في البرلمان». واتهم قاضي مكافحة الإرهاب السابق، جان لوي بروغيير، بتلفيق وثائق ومراسلات قال إنها «حُرِّرَت بأثر رجعي» لتبرير إعادة محاكمته في هذه القضية، مؤكداً أنَّ هذه المحاكمة الثالثة تُقام «دون أي شهود، ودون أدلة ملموسة، وبالتالي فإنها لن تنجح بإدانتي».

يواجه كارلوس حكماً بالسجن المؤبد سيكون الثالث من نوعه

ويواجه كارلوس، إذا ثبتت التهم الموجهة إليه في هذه القضية، حكماً بالسجن المؤبد سيكون الثالث من نوعه. فقد سبق أن أدين بالعقوبة القصوى ذاتها في قضيتين سابقتين. إذ إنه حُوكم في كانون الأول/ديسمبر1997، بتهمة قتل شرطييْن من جهاز الاستخبارات الفرنسية ومخبرهما اللبناني، في شارع تولييه في باريس، في حزيران/يونيو 1975. بينما شملت المحاكمة الثانية، التي أجريت عام 2011، موجة تفجيرات شملت 14عملية نُفّذت في باريس ومرسيليا، عامي 1982 و1983، ونُسبت إلى كارلوس، الذي كان آنذاك قد انفصل عن «الجبهة الشعبية» وأسّس تنظيمه الخاص «منظمة الثوار الأمميين».
تفجير متجر «دروغستور سان جيرمان»، الذي يعود إلى الواجهة من خلال هذه المحاكمة، بعد مرور أكثر من 43 سنة على وقوعه، يعدّ أقدم «قضية إرهاب» وُجِّه الاتهام فيها إلى كارلوس في فرنسا. وسبق لـ «ابن آوى»، كما كانت تلقبه أجهزة الاستخبارات التي كانت تطارده طوال ربع قرن، أن حوكم غيابياً في هذه القضية، في آذار 1983، وبرِّئ لـ «عدم كفاية الأدلة». وبعد اختطافه من السودان، في آب 1994، وسجنه في فرنسا، أعيد إجراء المحاكمة، وفقاً لقانون العقوبات الفرنسي الذي يقضي بمراجعة المحاكمات الغيابية في حال القبض على المتهمين لاحقاً.
أدّت تلك المحاكمة الثانية إلى تبرئة كارلوس، في كانون الثاني/يناير 1999، حيث تبين أن الدليل الوحيد الذي قّدمه المدعي العام تمثّل في قصاصات صحافية لحوار قديم مع مجلة «الوطن العربي» نُسبت فيه إلى كارلوس «اعترافات» كثيرة، من بينها قوله ــ وفق ما ورد في الحوار ــ إنه هو الذي ألقى شخصياً القنبلة اليدوية التي دمّرت متجر «دروغستور سان جيرمان»، مسبّبة مقتل شخصين وجرح 34 آخرين. لكن كارلوس نفى أن يكون قد أدلى بذلك الحوار أو بأي حوارات صحافية أخرى قبل سجنه. وحُفظَت القضية ثانية، بعدما عجز الادعاء عن إثبات ارتباط كارلوس بـ «تفجير سان جيرمان» أو حتى البرهنة أنه كان موجوداً في فرنسا حين وقع التفجير.
لكن المدعي العام الفرنسي طعن في حكم البراءة، وقرّر استئناف القضية بحجة بطلان المحاكمة لوجود «ثُغَر إجرائية في التحقيق القضائي». تلت ذلك معركة قانونية طويلة بين المدعي العام وهيئة الدفاع عن كارلوس، استمرت إلى غاية تشرين الأول/أكتوبر 2014، حين أمرت محكمة الاستئناف رسمياً بإعادة محاكمة كارلوس في قضية «تفجير سان جيرمان».
المعركة القانونية التي دارت بين الادعاء وهيئة الدفاع عن كارلوس تعلقت في مرحلة أولى بـ «الثُّغَر الإجرائية» التي قالت هيئة الدفاع عن كارلوس إنّ «الادعاء استخدمها لإبطال المحاكمة، لأن الحكم الذي نجك عنها جاء في مصلحة كارلوس، فيما ظل القضاء الفرنسي يتجاهل، منذ أكثر من عشرين سنة، الثغرة الإجرائية الأبرز المتمثّلة بأنَّ كالوس لم يُلقَ عليه القبض أو يسلَّم لفرنسا بنحو قانوني، بل خطفته في السودان الاستخبارات الفرنسية، خارج أي أطر قانونية، ما يبطل أي أحكام قضائية عليه، لأنه ليس سجيناً في فرنسا، بالمعنى القانوني المحض، بل يعدّ رهينة».
بعدما أصدرت محكمة الاستئناف، عام 2010، قراراً أيّد الطعن الذي تقدم به المدعي العام، رفعت هيئة الدفاع عن كارلوس طعناً مضاداً لإبطال إقامة محاكمة جديدة بسبب سقوط التهم بالتقادم، حيث كانت قد مرت أربعون سنة على «تفجير سان جيرمان». لكن محكمة الاستئناف أمرت، في تشرين الأول/أكتوبر 2014، بإعادة محاكمة كارلوس، مشيرة إلى أنَّ المدعي العام قدّم «حججاً مقنعة» للطعن في مسألة سقوط التهم بالتقادم. وتمثلت تلك الحجج في «مواظبة المتهم في ممارسة الاٍرهاب لاحقاً»، و«ظهور قرائن وشهادات جديدة تشير إلى ارتباط تفجير سان جيرمان بقضايا أخرى لا تزال محل تحقيق، وبالتالي لم تسقط التهم فيها بالتقادم».
ووفقاً لمعلومات سربتها جريدة «لوموند» في عددها الصادر أمس، نقلاً عن محاضر التحقيق القضائي، فإن الشهادات الجديدة التي تحدث عنها الادعاء العام الفرنسي تتمثل في شهادات اثنين من رفاق كارلوس السابقين، هما الألماني «التائب» هانس يوهاكيم كلين، والقيادي في «الجيش الأحمر الياباني»، هاريو واكو (راجع الكادر أدناه). أما القرائن المشار إليها، فتتعلق بمصدر القنبلة اليدوية التي استُعملت في «تفجير سان جيرمان»، والتي كانت ضمن ترسانة أسلحة ضمن 3 قنابل يدوية سرقتها «الألوية الثورية» الألمانية، عام 1972، في «قاعدة مايسو» العسكرية الأميركية. وكانت إحدى تلك القنابل قد استُعملت في عملية احتجاز رهائن في السفارة الألمانية بلاهاي، في 13 أيلول/سبتمبر 1974، واستعملت القنبلة الثانية في «تفجير سان جيرمان»، بعد ذلك التاريخ بيومين فقط. بينما عُثر على القنبلة الثالثة في بيت إحدى رفيقات كارلوس في باريس، إثر عملية اغتيال عميلي الاستخبارات الفرنسية ومخبرهما اللبناني، في حزيران/يونيو 1975.




أتحمّل مسؤولية عمليات «الجبهة»

في خلال المحاكمات المتعددة التي أقيمت في فرنسا، لم يتنصّل كارلوس من العمليات التي شارك فيها بوصفه، كما يقول، «ثورياً محترفاً، وفق التقليد الماركسي ــ اللينيني». لكنه نفى مشاركته في «تفجير سان جيرمان»، وفي بعض العمليات الأخرى التي حوكم بشأنها عام 2011.
ووفقاً لمحاضر التحقيق، التي سرّبت «لوموند» مقتطفات منها، فقد تمسّك كارلوس بنفي مشاركته شخصياً في تنفيذ «تفجير سان جيرمان»، طاعناً في شهادات رفيقيه السابقين هانس يوهاكيم كلين وهاريو واكو. وكان كلين، الذي استجوب عام 1998، أول من اتهم كارلوس بأنه هو الذي نفّذ «تفجير سان جيرمان بنفسه». أما واكو، فقد اعترف عند استجوابه في سجنه في طوكيو عام 2012، بأن كارلوس زوّده في أمستردام بقنبلة ومسدسين في أثناء الإعداد لعملية السفارة الفرنسية في لاهاي. ولم يتهم واكو كارلوس بالضلوع شخصياً في تفجير سان جيرمان، لكنه قال إنَّ لديه «انطباعاً شخصياً» بأنَّ كارلوس كانت له يد في ذلك التفجير، لأنه هو الذي كلّفه وديع حداد التفاوض مع الفرنسيين، في خلال عملية لاهاي.
وبالرغم من نفيه تلك التهم، لم يتنصّل كارلوس من مسؤولياته التاريخية ضمن شعبة العمليات الخارجية في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، قائلاً: «أتحمّل المسؤولية العسكرية والسياسية عن عمليات الجبهة الشعبية في أوروبا. أتحمل مسؤولية كل القتلى والجرحى، بوصفي بطلاً من أبطال المقاومة الفلسطينية».
(الأخبار)