النقد في غير مكانه وزمانه لا معنى له، ولا فائدة منه تُرجى. يوازيه في انعدام الفاعلية، النقد الذاتي بعد فوات الأوان، والوقوف عند سطح الظواهر المخاتلة، وأيضاً الامتناع عن دراسة الأسباب الحقيقية، للأوضاع السائدة والتحولات الجارية، الكامنة منها والظاهرة.
تُمثّل النقاط المذكورة، جانباً من إشكالية المعارضة، بشكل الخاص «المعتدلة» بشقيها السياسي والمسلح. فهي تحوَّلت في سياق الصراع الى كيانات وظيفية، وملاءات لمصالح وأهداف جهات إقليمية ودولية، وفصائل مقاتلة جهادية. ما جعلها تستمر في الدوران حول ذاتها، وحول أهداف لها تحوَّلت في سياق الصراع إلى أوراق للمقايضة في بازارات السياسة الدولية. وهي بهذا المستوى في وضع لا تُحسد عليه، إذ لم تعد تمتلك أياً من خيارتها. ويفاقم من ذلك ابتعادها عن قضايا السوريين الأساسية، ارتفاع حدِّة خلافاتها البينية السياسية منها والأيديولوجية، بالتالي عجزها عن إحداث تغيير ملحوظ في منهجيتها المتَّبعة بتحديد المقدمات الموضوعية للأزمة وآليات اشتغالها، والمآلات النهائية للتغيير الديمقراطي. وجميعها أسباب تستوجب التأكيد على أهمية دور قوى الداخل السوري السياسية والمدنية والأهلية والاقتصادية في البناء الوطني الديمقراطي، والتركيز على تحديد أسباب وتجليات تردي أوضاع المعارضة الموجودة في الخارج، وذلك من منظار المسؤولية الوطنية والأخلاقية:
ـ تجاهلها استمرار اشتغال أطراف دولية وإقليمية «داعمة للثورة»، على إفشال التغيير الوطني الديمقراطي. وذلك ليس بجديد. فمنذ انطلاق الحراك الشعبي، كان ثمة ملامح واضحة، تُشير إلى أن أطرافاً متعددة دولية وإقليمية استغلت الحراك، وأوضاع النظام السياسية (شكل الحكم)، وتردي أوضاع شرائح واسعة من السوريين لإجهاض التغيير الديمقراطي، وإعادة توضيب الجغرافية السياسية في سوريا ودول أخرى.
ــ فشلها في تمكين المشروعية السياسية التي منحها لها بعض السوريين. وبشكل خاص ممن شاركوا في بدايات الحراك الشعبي لتحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي يضمن العدالة الاجتماعية والحريات السياسية، واكتفاؤها بالغطاء الممنوح لها من قِبل الأطراف الداعمة والممولة.
ــ عجزها عن تفعيل دورها السياسي، وترددها في تحمُّل المسؤولية عن مواقفها الإشكالية المتعلقة، أولاً: بتصدُّع علاقتها مع السوريين في الداخل. ثانياً: طبيعة علاقتها الإشكالية مع الفصائل المدرجة على قوائم الإرهاب. ثالثاً: طبيعة وأهداف تحالفاتها الإقليمية والدولية. وفي السياق فإن تغييب النقد والتقييم الذاتي الموضوعي، إضافة الى استشراء قضايا الفساد الداخلية السياسية منها والمالية، وأخرى تتعلق بطبيعة العلاقة مع المنظمات والمؤسسات الدولية أعطى انطباعاً بأنها لا تختلف في ماهيتها عن طبيعة النظام وتركيبته.

تتمسك المعارضة
حتى اللحظة بشعارات
كلِّية وإطلاقية ضد
النظام وحلفائه

ــ تمسُّكها حتى اللحظة بشعارات كلِّية وإطلاقية ضد النظام وحلفائه، في وقت ما زالت تتجاهل معالجة أخطائها، وترفض الإقرار بتجاوزات وانتهاكات يرتكبها حلفاء لها إقليميون ودوليون، وتتعامل مع فصائل متطرفة بكونها من مكونات الثورة. هذا في وقت يشتغل فيه بعض من حلفائها الإقليميين والدوليين على إعادة ترتيب علاقتهم بأطراف من المعارضة السياسية والمسلحة، ويأتي ذلك في سياق إعادة قراءة وتقييم أزمة الصراع في سوريا. وخير مثال على قولنا، اشتغال أنقرة على إعادة توضيب أوراقها السياسية الدولية منها والإقليمية وذلك في إطار التكيف مع التحولات الراهنة، ووفق أشكال وآليات تضمن لها تحقيق مصالحها الاقتصادية، وأهدافها السياسية، إضافة إلى قضايا جيو سياسية تتعلق بـ «مشروع أكراد سوريا، والمناطق الآمنة». ولذلك علاقة بمواقفها الأخيرة من التحالف الذي تقوده موسكو، ومن مواقف واشنطن المتعلقة بالدور التركي والنظام السوري وقضية محاربة الإرهاب... وأيضاً بتردي أوضاع المعارضة وتفاقم تناقضاتها البينية، والتحولات الميدانية.
ـ فيما يتعلق بخيبة أمل المراهنين من زعماء المعارضة «المعتدلة» ومناصريها في الخارج والداخل على الدعم الخارجي لإسقاط الحكم في سوريا أو «لنصرة الثورة»، فإنه يبدو أكثر وضوحاً بعدما أصبحت موسكو، إضافة إلى طهران وأنقرة، يتحكمون بشكل شبه كامل في إدارة الملف السوري. ما يعني أن مشاركة المعارضة، وبشكل الخاص المعتدلة، في أي لقاءات سيمرُّ أولاً من بوابة حلفاء النظام، ووفق أشكال وصيغ تلاءم ما يتم توضيبه لمستقبل سوريا.
ـ إن استمرار عجز معارضة الخارج عن تحقيق توافقات ملموسة بخصوص التحولات السياسية والميدانية، وأيضاً بموقفها من الفصائل المصنَّفة إرهابية. يفضي إلى استمرار تمسكها بمنطق المزايدات السياسية والتطرف، وبحساباتها الأنانية والضيقة، ولذلك علاقة باستمرار ارتهانها لدول تتباين في مواقفها وأهدافها. وجميعها عوامل تأتي على فاعليتها الشعبية داخل سوريا، وتحدّ من تأثيرها في مجرى التحولات السياسية. ويفاقم من ذلك استهتارها بما يخلِّفه استمرار الصراع من معاناة لقطاعات شعبية واسعة، ومن استحكام المتطرفين الإسلاميين بمستقبل البلاد. وكلاهما يخالف تأكيد السوريين على إنهاء الصراع وتجاوز تداعياته، واجتثاث أسباب الإرهاب ومظاهره.
ــ لكن أسوأ ما يواجه المعارضة الموجودة في الخارج، هو تهتك «الشرعية» التي أنعم بها المجتمع الدولي عليها، انحسار دورها الوظيفي، واستمرار افتقادها للشرعية الشعبية. وجميعها يدلل على أنها تحولت إلى أحد أسباب الأزمة ما يعني إمكانية تفكيكها وإعادة تركيبها وفق صياغات تناسب التحولات الراهنة، وآفاق المرحلة المقبلة.
ــ إن تجاوز المعارضة الموجودة في الخارج لأوضاعها الراهنة، يلزمه إعادة مراجعة وتقييم ونقد لمجمل أوضاعها السياسية والفكرية والمفاهيمية مثل: الثورة والتغيير السياسي الديمقراطي، إضافة إلى طبيعة علاقاتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية والميدانية، وذلك من منظور مصالح السوريين الحقيقية، وليس كما يُحبُّون أن يصوروها، أو كما يتم تحديدها لهم. ما يعني وقوفهم على منصة أخلاقية وفكرية وسياسية تناقض التي يقفون عليها، ويقف عليها النظام وذلك للحد من إمكانية إعادة إنتاج بنية الاستبداد المولدة للتخلف والتطرف والقمع والعنف والقهر والإفقار.
* كاتب وباحث سوري