في موازاة الأهمية التي تعطى للنظام الانتخابي وشكل الدوائر وحجهما في أي قانون انتخاب موضوع بجدية على بساط البحث، تقابل الإصلاحات السياسية، المفترض إحداثها في القانون الجديد، ببعض من اللامبالاة، استناداً إلى أن أولوية القوى السياسية تكمن دائماً في الخلاصة التي ينتهي إليها القانون في دوائره وشكل عملية الاقتراع.
من هنا، يصبح إصرار التيار الوطني الحر، وحده حتى الآن، على تناول الشق الإصلاحي في قانون الانتخاب، مناسبة لطرح أسئلة جدية حول الحيثيات التي ترافق هذه الطروحات منذ أن بدأ رئيس التيار الوزير جبران باسيل يتقدم بها تدريجاً، ولا سيما أن الأسابيع الأخيرة حفلت بأجواء تؤكد أن أي قانون سيطرحه التيار بعد سلسلة من التصورات والمشاريع التي تقدم بها تباعاً، لن يكون بمعزل عن الإصلاحات السياسية والأفكار المطروحة للنقاش السياسي.
قبل نحو شهرين ونصف شهر، بادر باسيل إلى إعلان تأييد «تكتل التغيير والإصلاح» العودة الى اعتماد 108 نواب، استناداً الى ما أقره اتفاق الطائف، قبل أن يعدل مجلس النواب عام 1992 العدد ويرفعه الى 128 نائباً. لم يقابل الطرح بأي تأييد، بل قوبل بالتجاهل والرفض على قاعدة أن النواب لن يقبلوا بخفض عددهم، علماً بأن باسيل كان يستند في طرحه الى اتفاق الطائف، فيما كان المشاركون في صياغة الطائف يعيدون التذكير بأن هدف رفع العدد الى 128 كان التصعيب على المسيحيين آنذاك الحصول على الثلث في المجلس النيابي الذي يمكنهم من عرقلة أي تعديل دستوري.
رغم تجاهل مطلب التيار، إلا أن باسيل أصر على تضمين كل خطبه منذ أسابيع الكلام عن الشق الإصلاحي في قانون الانتخاب. وفي وقت ربط فيه باسيل الموازنة بقانون الانتخاب، وفي خضم النقاش الذي لا يزال دائراً في الخلوات والاجتماعات، من دون إحداث أي خرق جدي، أصر رئيس التيار على الشق المتعلق بطرح الإصلاحات، بدءاً من خفض العدد، وصولاً الى القول أخيراً «إننا جاهزون للقيام بإصلاح سياسي شامل ولمجلس شيوخ والعلمنة الكاملة».

من المبكر الذهاب إلى إصلاحات غير مضمونة النتائج في ظل الغموض المحلي والإقليمي


وبحسب مطلعين على أجواء باسيل، فإن هذا الإصرار على خوض ملف الإصلاح في قانون الانتخاب، يساهم في سحب كل التهديدات المبطنة التي كانت تستهدف القوى المسيحية عند أي استحقاق سياسي أو انتخابي، وخصوصاً أن التيار الوطني اليوم، بعد ورقة إعلان النيات مع القوات اللبنانية وبما يمثلان من حضور مسيحي، قادر على خوض مثل هذه المواجهة مرة نهائية بدل الكلام عنها مواربة، وفي صورة مباشرة من دون أي التباسات، ومن صلب اتفاق الطائف الذي تقول القوى السياسية كافة إنها متمسكة به.
وهذا ليس تفصيلاً أن تعمد القوة المسيحية الأكثر تمثيلاً إلى إعادة التذكير بالدولة المدنية ومجلس الشيوخ والعلمنة الشاملة وتطبيق الطائف لجهة خفض عدد النواب وإنشاء مجلس نواب خارج القيد الطائفي، في وقت كانت فيه هذه العبارات تثير فزع المسيحيين حين كان يستخدمها خصومهم في كل مرة يحتدم فيها الصراع السياسي، وهو أمر استمر منذ خطب البطريرك الماروني الكادرينال مار نصرالله بطرس صفير ونداءاته، وصولاً إلى السنوات الأخيرة.
لكن المفارقة في مقاربة ملف الإصلاحات، بحسب هؤلاء، هي أن أي طرف سياسي، سواء من الثنائية الشيعية أو القوى السنية، لم يبادر الى التعليق عليها، لا ترحيباً ولا رفضاً معلناً، بل بدا في أسلوب التعاطي معها أن الأفرقاء السياسيين راغبون في تجاهل المطالبة بالإصلاحات، والاكتفاء بحصر البحث في قانون الانتخاب في شكل الدوائر والنظام الانتخابي، من دون التوقف عند أهمية الإصلاحات التي يريد التيار خوضها في ظل وجود رئيس الجمهورية. وهذا يدفع الى التساؤل عن سبب رغبة القوى السياسية الإسلامية، في عدم التطبيق العملاني والعملي لهذه البنود الواردة في الطائف، ولا سيما أن الشكوى الأساسية التي يرفعها المسيحيون خلال نقاش قانون الانتخاب وإعادة تثبيت دور المسيحيين في السلطة، هي أن القوتين السنية والشيعية إنما تستفيدان من الواقع القائم حالياً، ولا ترغبان حقاً في تبديله. فهما، أولاً، تستأثران بحصة وازنة من التمثيل المسيحي، وهذه الحصة تمكّنهما بطريقة أو بأخرى من الاستمرار في التحكم بواقع سياسي مستمر منذ سنوات طويلة. وهذه الحصة في المجلس النيابي بصيغته الحالية وفي شكل الحكومات التي تؤلف، إنما تؤدي الغرض المطلوب منها، في إبقاء القوتين السنية والشيعية ممسكتين بجزء أساسي من القرار السياسي العام والمتعلق أيضاً بالمسيحيين. ثانياً، إن أي تبدل في الواقع السياسي الحالي مشمولاً بتطبيق هذه الإصلاحات مع قانون انتخاب جديد، سيغير في موازين القوى، ومن المبكر حالياً تغيير أسلوب اللعب السياسي والذهاب الى إصلاحات غير مضمونة النتائج، في ظل عدم وضوح الصورة المحلية والإقليمية، لأن كل نتيجة مبهمة لأي من الإصلاحات المنشودة، يمكن أن ترتد سلباً على القوى السياسية التي لا تزال تتحكم بمسار الساحة السياسية منذ 1990 حتى اليوم، علماً بأن المسيحيين يشتكون دوماً أنهم لا يزالون منذ عام 2005 تحت وطأة التحالف الرباعي الذي يعود الى الظهور عند أي استحقاق أساسي، كما عند مواجهة التفاهم المسيحي الداخلي. كل هذه الاعتبارات تجعل من الصعب التعامل مع طروحات الإصلاحات بجدية وضرورة تعيد الاعتبار الى تنفيذ الطائف بما تقتضيه مصلحة جميع الذين وافقوا عليه سابقاً وحالياً. لكن، هل يذهب التيار بمطالبه الإصلاحية الى النهاية، أم يطويها تحت وطأة التحالفات السياسية فيقبل النقاش فقط بقانون انتخاب تتبدل فيه الدوائر وطريقة الاقتراع؟