بعد توتر دام أشهراً عدة في منطقة الكركرات التي تقع في أقصى جنوب ــ غرب الصحراء الغربية قرب الحدود مع موريتانيا، قررت الرباط في نهاية الشهر الماضي سحب جنودها قبل أن تتحول المواجهة بينها وبين الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (المعروفة بـ«جبهة البوليساريو») إلى صراع مفتوح.
ويأتي هذا التطور بعدما بدا في أيلول/ سبتمبر 2016 أن سيناريو الأزمة في هذه المنطقة العازلة لا يشغل بال النظام الملكي المغربي، الذي عبّر آنذاك على لسان مندوبه في الأمم المتحدة عمر هلال، عن رفضه الخضوع لمطالب البوليساريو. وقبل شهر من ذلك، كانت السلطات المغربية قد باشرت بتعبيد طريق تربط الجزء الذي يسيطر عليه المغرب من الصحراء الغربية بموريتانيا بهدف مكافحة أعمال التهريب، بحسب ما أعلنته الجهات الرسمية. ورداً على هذا الوجود المغربي الذي اعتبرته جبهة البوليساريو خرقاً لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم عام 1991، ضاعفت الجبهة منذ كانون الأول/ ديسمبر عمليات التوغل وتثبيت نقاط دعم في المنطقة الحدودية مع موريتانيا. وبعد أشهر عدة من النزاعات المحدودة النطاق، توجه المغرب، الذي لم يكن باستطاعته الانسحاب من دون إحراج، إلى الأمم المتحدة في 24 شباط/ فبراير الماضي لـ«لفت نظرها حول خطورة الوضع» لكي تعطيه فرصة لفضّ الاشتباك وحفظ ماء الوجه في آنٍ معاً.
واللافت أنه بعد شهر من عودته الرسمية إلى كنف الاتحاد الأفريقي، وفي ظلّ اتباعه استراتيجية جذب الشركاء الأفارقة، بادر المغرب إلى منع الوضع في الكركرات من التدهور لكي لا تطفو الخلافات حول ملف الصحراء الغربية الشائك إلى السطح مجدداً. فاندلاع مواجهة في هذه المنطقة من شأنه زيادة الضغوط على المغرب وعودة المطالبة بإجراء استفتاء عاجل حول حق سكان الصحراء الغربية في تقرير مصيرهم.
ورغم موافقته على إجراء هذا الاستفتاء عام 1991، تجاهل المغرب هذا الاحتمال عملياً منذ نهاية التسعينيات وضاعف مناوراته الهادفة إلى تأجيله لإفشال محاولات حلّ النزاع سياسياً. وفي آذار/ مارس 2016، وبذريعة الاعتراض على كلام الأمين العام للأمم المتحدة، أعلن المغرب عن اتخاذه إجراءات للرد بالمثل، حتى إنه طرد 84 خبيراً مدنياً من بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو). لكن مصطلح «الاحتلال»، الذي أثار استياء المغرب، كان قد ورد صراحة في قرارَي الجمعية العمومية للأمم المتحدة الرقم 3437 لعام 1979 و3519 لعام 1980. لكن المغرب لطالما أبدى تصلّبه بشأن ملف الصحراء الغربية، وهو رغم كل التصريحات المبدئية التي تصدر عن ممثليه لا يزال يرفض الاعتراف بالأسس السياسية لمطالب سكان الصحراء الغربية.

الأسطورة المؤسِّسة
والقانون الدولي

أدّت الاستنتاجات التي توصلت إليها محكمة العدل الدولية منذ عام 1975 إلى دحض الأسطورة المؤسسة لملكية المغرب للصحراء الغربية والهادفة إلى تثبيت السكان وإعادة الشرعية إلى النظام الملكي المترنّح. وبناءً على طلب المغرب، باشرت المحكمة مهمتها في الصحراء الغربية، وتوصلت في 15 تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام إلى أن هناك «إجماعاً تاماً بين سكان الصحراء الغربية على رغبتهم في الاستقلال ومعارضة ضمّ أراضيهم إلى أي من البلدان المجاورة»، كما لاحظت المحكمة «دعماً هائلاً لجبهة البوليساريو لدى السكان». ورغم أن المحكمة أقرّت بأن أرض الصحراء الغربية لم تكن مشاعاً قبل الاستعمار الإسباني وبأن روابط قانونية تشهد على ولاء عدد من القبائل الصحراوية للمغرب وموريتانيا، فإنها لم ترَ في تلك الروابط امتداداً للسيادة الوطنية المغربية على الصحراء الغربية. وبالتالي، اعتبرت المحكمة أن طبيعة روابط الصحراء الغربية مع البلدان المجاورة لا تعيق «ممارسة حق تقرير المصير، وذلك بفضل حرية سكان الصحراء في التعبير عن رغبتهم الفعلية». وبعد يوم من إصدار محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري في المسألة، تنصّل الملك الحسن الثاني منه وأطلق «المسيرة الخضراء» (الكارثية) التي دفعت بمجلس الأمن إلى إصدار قراره الرقم 380 مطالباً المغرب «بسحب جميع المشاركين في المسيرة فوراً من أراضي الصحراء الغربية». وفي 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، وقّعت الحكومة الإسبانية، بضغط فرنسي، اتفاق مدريد مع كل من المغرب وموريتانيا لتقسيم الأراضي بينهما. وقد جرى هذا التقسيم من دون التشاور مع جبهة البوليساريو وسكان الصحراء الغربية الذين حرروا أرضهم بفعل مقاومتهم الشرسة ضد الاحتلال الإسباني. وبعد انسحاب نواكشوط من الصحراء الغربية عام 1978 إثر الانتصار العسكري الذي حققته جبهة البوليساريو، عاجل المغرب إلى الإعلان أن الأراضي التي انسحبت منها موريتانيا تابعة له أيضاً.

أدّت استنتاجات محكمة العدل الدولية إلى دحض أسطورة الملكية

فضلاً عن ذلك، ينادي المغرب منذ 26 عاماً بمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء الغربية كبديل من الاستفتاء، لكن عبر المطالبة من جانب واحد بحكم ذاتي شكلي خاضع للسيادة المغربية، ينكر المغرب وجود الصحراويين المصممين على تقرير مصيرهم بأنفسهم وعلى صياغة الطروحات السياسية والاقتصادية لمستقبلهم والتي عبّروا عنها عام 1976 عبر إنشاء الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية. وإذا كان تضامن حلفاء المغرب الأعمى معه قد سمح له طوال الفترة الماضية بالاستمرار في سياسة الاحتلال، فإن عودته إلى الاتحاد الأفريقي ستضعه في موقف حرج إزاء حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وهو ما لا يعترف به المغرب. ومن اللافت التذكير بأن المغرب كان قد توجه إلى منظمة الوحدة الأفريقية في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1984 للاعتراض على اعتراف المنظمة بالجمهورية الصحراوية، أما الآن، وبعد عودته إلى كنف الاتحاد الأفريقي في كانون الثاني/ يناير الماضي، يجد المغرب نفسه مجبراً، وفق النظام الأساسي للاتحاد، على الاعتراف بحدود الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية وعلى قبول مبدأ التفاوض. ولكن بالنسبة إلى الرباط، التي تنكر شرعية المطالب الصحراوية وتعتبر أن الصحراء الغربية تابعة للمغرب تاريخياً، فإن التخلي عن طموحاتها في الصحراء غير مطروح، وخصوصاً أنها تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. وبمعزل عن الطموحات السياسية، يمكن فهم خلفيات تصلّب المغرب في هذا الملف عبر الاطلاع على مصالحه الاقتصادية في الصحراء الغربية، إذ إن هذه الأخيرة غنية بالفوسفات، كما أن 75 إلى 80 في المئة من الأسماك التي تصطادها الزوارق المغربية تقع في المياه الإقليمية الصحراوية. وبحسب الباحث المتخصص في شؤون المغرب قادر عبد الرحيم، «من المحتمل في الأشهر المقبلة أن يعيد المغرب صياغة سياسته تجاه هذا الملف. وسيكون من المثير للاهتمام مراقبة الاستراتيجية التي سيتبعها المغرب، فهو يسعى، في نهاية المطاف، إلى طرد الجمهورية الصحراوية من الاتحاد الأفريقي».