عرضت قناة «بي بي سي 2» فيلماً وثائقياً من إنتاج «هيئة الإذاعة البريطانية/ بي بي سي» عنوانه، بالعربية، «جيش المشجعين» عن أعمال شغب قام بها مشجعو كرة القدم الروس في الماضي والخوف من تكرارها خلال بطولة العالم لكرة القدم المقرر إقامتها العام المقبل في روسيا. هذا الفيلم أثار ردود فعل وتعليقات عديدة من أعلى المستويات في روسيا ومن ضمنها ما قاله المتحدث الصحافي باسم الرئيس الروسي، دميتري بيسكوف، يوم الجمعة 17 فبراير (شباط). وفق موقع «روسيا اليوم»، صرّح بيسكوف: «إن الكرملين لاحظ ترهلاً في نوعية وموضوعية عمل صحفيي هيئة الإذاعة البريطانية من خلال عرضها الفيلم».
لكن ما الذي يجعل هذه الجهات السامية في الإدارة الروسية، تكترث بالتعليق على فيلم أنتجته وعرضته قناة تلفزيونية حكومية بريطانية، منغمسة هي وغيرها من دول الغرب الاستعماري، في حملة معادية لروسية تحت عنوان عريض «الأخبار الملفقة/ fake news». أمر واضح وسبق لنا التعليق عليه في منبر آخر في «الأخبار».

السبب، في ظننا أنّ «هيئة الإذاعة البريطانية» تتمتع بمصداقية كبيرة لدى جمهور عريض في العالم كونها مصدراً محايداً للأخبار. فالهيئة تحظى إلى يومنا هذا بشعبية محلية كبيرة في المملكة المتحدة وفي مختلف أنحاء العالم. يبلغ عدد متابعيها ـــ دوماً وفق المؤلف ــ أكثر من 300 مليون مستمع ومشاهد. كما نعلم أنّ رئاسة الهيئة دخلت في صراعات مع مختلف الحكومات بسبب اتهامها بأنها يسارية تحجب الرأي المحافظ.
الكاتب، أستاذ السوسيولجيا وخطط العمل في جامعة «أستن» البريطانية، خصص مؤلفه الذي يتناول سياسات «هيئة الإذاعة البريطانية» بالتحليل والنقد العميقين، نافياً أي علاقة لها بالحيادية والموضوعية والاستقلالية المزعومة عند تغطيتها الأحداث المحلية والعالمية. وبالاستناد إلى الحقائق والتصريحات العائدة إلى أفراد من إداراتها منذ إنشائها عام 1922، يثبت بأنها ــ على عكس كافة الادعاءات ـــ ليست بمستقلة ولا بمحايدة، وأن بنيتها وثقافتها وخطط عملها ترسمها مصالح الجماعات السلطوية في المجتمع البريطاني.
الحكم على «هيئة الإذاعة البريطانية» ــ يضيف الكاتب ــ يجب ألا ينطلق من فائدة هيئة إعلامية ما، وإنما توسل مخاطر احتضانها مبادئ الصحافة الليبرالية وهي الدقة والاستقلالية والحيادية.
تاريخ تشكيل «هيئة الإذاعة البريطانية» يعدّ مدخل المؤلَّف للحديث في بنيتها منذ ولادتها الناتجة من تجمع الشركات الستّ المنتجة لأجهزة المذياع، وأكبرها شركة «ماركوني»، بهدف الترويج لاختراعها الجديد، الذي اتفق مع الحكومة على تمويل الهيئة بحصة من عائدات مبيعات أجهزة المذياع.
تاريخ نشوء الهيئة يتلازم مع انحرافها السياسي منذ البداية. إذ يستعرض الكاتب موقفها من الإضراب العام الذي عمّ المملكة المتحدة عام 1926 استجابة لطلب «مجلس اتحاد النقابات» (البريطاني/ trade unions council, TUS).

تدخل المخابرات البريطانية
في تعيين الموظفين ومنع اليساريين
من العمل فيها
موقف الهيئة من الإضراب، كان في خدمة الحكومة، لا الجمهور والعمال. فقد أقدمت الإذاعة حينئذ على إعلان أن «مجلس اتحاد النقابات» دعا لإنهاء الإضراب العام من دون قيد أو شرط، مما أدى إلى انهياره. الخبر وصل إلى الإذاعة ـــ التي كانت المصدر الوحيد للأخبار لأنّ الإضراب العام طال الصحف أيضاً ـــ من قبل مسؤول في الهيئة تسلمه بدوره من وزير. الحقيقة كانت أنّ وفد المجلس كان لا يزال يفاوض الحكومة على شروط إنهاء الإضراب، ومنها الاستجابة لمطالب عمال مناجم الفحم. هذا الإعلان الكاذب بيّن ــ وفق تصريح مديرها العام سير تشارلز كُرّان، في سنة 1971 ــ أنّ الهيئة خلقتها المؤسسة (الحاكمة) وأن استمرار وجودها يعتمد على رضى الطرف الأخير. أما مؤسس الهيئة، جون ريث، فقد صرح بعد الإضراب العام بثلاثة عقود أن انحيازها للحكومة كان أمراً صحيحاً، خصوصاً أنّ العامة غير مسيسة ولا تفهم في السياسة. المؤسس نفسه صرح لاحقاً بأن الهيئة لم تكن وقتها حرة أو تتسلم أوامر من الحكومة، وهو الذي أخبر الموظفين بأنه تسلم رسالة تقدير وثقة من رئيس الوزراء تهنئه بصحة تقديراتها وولائها (للحكومة طبعاً).
الواقع أن مدى تأثير انحياز الهيئة للحكومة وسياساتها دفع بأحد مديريها للقول: «لو كانت ثمة إذاعة في القرن الأسبق، لما اندلعت الثورة في فرنسا».
الكاتب الذي ناقش التغير ذا المغزى في أداء الهيئة الذي مرت به في الستينيات، أكد أن ذلك كان استجابة (حاذقة) للتغيرات الاجتماعية، بهدف المحافظة على سمعتها، وبالتالي على وجودها. فالصحافة، على نحو عام، نادراً ما تشكل تحدياً جذرياً للمؤسسة الحاكمة وللنظام الاجتماعي. لذلك، فإنّ الانحياز العالمي لليسار الذي شهده العالم دفع الإذاعة إلى تبني مواقف مختلفة عن التغطية الصحافية السائدة، أي الموالية على نحو مطلق للمؤسسة الحاكمة. في تلك المرحلة التاريخية، هاجمت الهيئة ــ وفق ما أورده ستيُوَرت هود مدير البرامج الإذاعية والمتلفزة في مؤلفه عن التلفزة الصادر عام 1987 ـــ بعض الأبقار المقدسة للمؤسسة الحاكمة، أي الملكية والكنيسة وكبار سياسي البلاد وقادتها وغير ذلك من الموضوعات التي كانت تعد محرمات (تابوهات). ولفهم أعمق لسبب انسجام الهيئة مع التطورات، يبين الكاتب أن أهل الاختصاص الذين تأثروا براديكالية الستينيات لم يعودوا على استعداد لقبول البنى الاجتماعية والأفكار التي منحتها الشرعية، كما قوض علماء الاجتماع (السسيُلوجية) وهم الحيادية الصحافية.
في سبيعينات القرن الماضي، يمضي الكاتب في تحليل سياسات الهيئة. شهدت الانعطافة نحو اليمين الجديد الملتف حول وزيرة التعليم، ومن بعد ذلك رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر، التي بدأت حملة «تطهير» لليبراليين من كافة مؤسسات الدولة ومنها الهيئة.
أمر أجبر مديرها العام، أُلسدير ميلن على الاستقالة، وقاد لانعطافة حادة تجاه اليمين عندما تسلم النيوليبرالي جون بيرت إدارتها. الأخير ناح في مذكراته الصادرة عام 2002 بأنّ الهيئة لم تقبل بعد التعايش مع الثاتشرية! بعد ذلك، أقدم المدير الجديد على إعادة هيكلة إدارة الهيئة على النمط النيوليبرالي، القائمة على نمط الاستهلاك، مما قادها إلى الانخراط في القطاع الخاص، وأجبرها على أن تكون أكثر ودية مع الرأسماليين. أمر تطور على نحو أسرع تحت رئاسة خلفه غرغ دايك الذي عينه رئيس الوزراء العمالي طوني بلير المشارك في العدوان على العراق، وما نتج عنه من قتل أكثر من مليون نفس بشرية وعدة ملايين من المشردين والمهجرين وتدمير البني التحتية للبلاد.
عبر تصفح مختلف فصول المؤلَّف، يبيّن الكاتب أنّ الهيئة لم تكن يوماً مستقلة عن المؤسسة الحاكمة، وأن استقلاليتها النسبية بدأت بالتآكل على نحو منتظم في الثمانينيات.
الهيئة لم تتعرض للرقابة المباشرة الفظة كما نعيشها في الأنظمة غير التعددية، ولم تفرض عليها، بل إنّها مورست على نحو حذق أو متذاكٍ. على سبيل المثال، ترك للصحافي حرية وضع خبر ما أو صياغته كما يراه مناسباً، «وفي حالة وجود شكوك لديه، يمكنه استشارة رئيسه». المقصود هنا الرقابة الذاتية. فأعضاء إدارة الهيئة العليا لم يكونوا موظفين عاديين، بل يتم اختيارهم وفق شروط ومعايير غاية في الدقة. الهيئة لم تتشكل بقانون عبر المجلس التمثيلي أي مجلس العموم، وإنما بموجب «إرادة سرية ملكية» (سامية) Order of the Privy Council. مجلس ينصح التاج بخصوص أمور مصيرية مثل إعلان الحرب، وبالتالي فهو أمر ليس خاضعاً للمساءلة. هذا جعل «لجنة ألسوتر» Ullswater Committee وهي إحدى اللجان التي شُكلت لتقصي واقع الإعلام، يقول عام 1936 إنّ الهيئة مستقلة في إدارة أمورها وأعمالها اليومية، لكنها خاضعة لسيطرة حكومة صاحب الجلالة.
ولأن الهيئة تشكلت بموجب إرادة ملكية، بناءً على نصيحة رئيس الوزراء الذي يختار أعضاءها وفق معيار مدى قربهم من الحزب الحاكم.
ومع أن ميزانية الهيئة مصدرها الضرائب المفروضة على الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، لكن المهم، ليس من يقدم المال وإنما من يتحكم في كيفية صرفه.
بالنظر إلى رئاسة الهيئة وإداراتها، لاحظ التقرير شبه الرسمي لـ «مفوضية الحركية الاجتماعية والفقر بين الأطفال» أنّ رئاسات «هيئة الإذاعة البريطانية» تنتمي إلى نخب (elite) البلاد، تماماً مثل سياسييها وأعضاء الخدمة المدنية والأغنياء على نحو مطلق. وبدراسة خلفية 125 من إداريي الهيئة، تبين أن 26% منهم خريجو مدارس خاصة (مقارنة بمقدار 7% من الخريجين من عموم السكان)، وأن أكثر من ثلثهم خريجو كليات نخب النخب، أي جامعتا «كمبردج» و«أكسفُرد» المسماة (أكسردج/ Oxridge) مقارنة بمقدار أقل من 1% من الخريجين من عموم السكان. كما تبين أن 62% من إداريي الهيئة تخرجوا في كليات جامعات «مجموعة رسل/ Russel Group» التي تشكلت عام 1994 وتضم 24 جامعة، مقارنة بمقدار 11% من الخريجين من السكان.
الأمر ذاته يسري على نحو ملفت على قياديي العاملين في الصحافة ليتبين أن 54% منهم خريجو مدارس خاصة، وأن حوالى النصف تخرج في أُكسبردج.
أما بخصوص موقع الهيئة الإدارية المتحكمة في «هيئة الإذاعة البريطانية» وسياساتها، فقد بلغ متوسط معاشات أعضائها حوالى نصف مليون جنيه سنوياً. أما متوسط معاشات الإداريين الأقل درجة، فيبلغ مئة وخمسين ألف جنيه إسترليني.
المقصود هنا أن الخلفية الطبقية لإدارة الهيئة وأدائها، توضح على نحو ساطع أنها منحازة للمؤسسة الحاكمة، وأن هدف ليبراليتها في بعض الأحيان هو خدمة النظام والمؤسسة الحاكمة، وليس منح المعارضين لهما صوتاً في هيئة مفترض أنها عامة.
مدى انحياز الهيئة يتبين مرة أخرى من خلال تدخل المخابرات البريطانية الداخلية (MI5) في تعيين الموظفين ومنع اليساريين من العمل فيها بحجة المحافظة على استقلالية الهيئة المزعومة، إضافة إلى تدخلهم في الأخبار بحجج الأمن القومي. ومن الجدير بالذكر أن تدخل المخابرات البريطانية في عمل الهيئة وتعيين موظفيها لم يأت بأمر خارجي وإنما بمبادرة من إدارتها.
انحياز الهيئة والصحافة على نحو عام إلى جانب المؤسسة الحاكمة وسياساتها هو ما أدى ــ وفق الكاتب ـــ إلى أزمة الصحافة في بريطانيا وبروز اليمينية المتطرفة وكذلك اختيار أعضاء حزب العمال اليساري جرمي كُرباينز رئيساً، وكذلك فقدان السيطرة على تطور المجتمع. وهو ما نراه يتكرر في كثير من دول العالم، ما جعل المهتمين يلجأون إلى مصادر التواصل الاجتماعي ما يهدد استقرارها على نحو كامل.