المشترك بين طرابلس وعكار أمر واحد: غياب الدولة!الطرقات بين عاصمة الشمال ومحافظة عكار المحرومة لا تعكس بالضرورة حالة فقر في مدينة طرابلس. ازدحام قائم صباحاً وظهراً، وحتى ليلاً، في الكثير من الطرقات المتفرعة من مستديرة عبد الحميد كرامي (ساحة النور) في اتجاه مدينة الميناء، أو حيث تنتشر المقاهي والمطاعم الحديثة في شارع عشير الداية. ازدحام يدل على حياة صاخبة، تعكس التناقض الذي تعيشه المدينة، كما القضاء والمحافظة.

الميسورون كلهم يأتون الى هنا، ويمرون بجانب الابنية الممزقة برصاص حروب الاحياء الفقيرة، من أحياء التبانة صعوداً حتى الجبل، حيث المستوى الادنى من العيش، وحيث النوع المختلف من الهموم والاحلام.
بين البداوي وعكار، تشي لافتات أسعار الخضر واللحوم واللوازم المنزلية بحالة التعب والعوز لأبناء تلك المنطقة. صور الزعماء المحليين تنتشر، الى جانبها لافتات يناشد رافعوها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن يشمل عفوه العام أبناءهم. لا تدقيق في نوع الاحكام إن صدرت أصلاً. لكن القرى التي لا تزال كما كانت منذ زمن بعيد، باتت ساحة يتقاسمها، مناصفة، أهاليها ونازحون سوريون.تتنافس القيادات الشمالية على
زعامات محلية لا تعيش من دون التوتر والخلاف مع المحيط و«الآخر»


النقاش من بعيد يكاد ينحصر في من يحتل المرتبة الاولى شعبياً. ثلاثة استطلاعات أجريت لمصلحة ثلاثة زعماء فيها، أظهرت الرئيس نجيب ميقاتي أول، واللواء أشرف ريفي ثانياً، والرئيس سعد الحريري ثالثاً. والفوارق بين الثلاثة ضيّقة للغاية، علماً بأن استطلاعين خاصين بتيار المستقبل أظهرا استعادة الحريري بعض النقاط منذ توليه رئاسة الحكومة على حساب ريفي. لكن الاستطلاعات الثلاثة، التي جرت بين السنّة من أهل المدينة، وضعت الإسلاميين في مراتب متدنية جداً. يتعادل فريقا الأحباش والجماعة الاسلامية بأقل من ثلاثة في المئة لكل منهما، ويتقدم عليهما الوزير السابق فيصل كرامي، بينما لا تظهر الجماعات السلفية في الارقام. لكن مطّلعين على أحوال الناس يلفتون الى أن قواعد السلفيين موزعة بين ريفي من جهة، ومكتومي القيد السياسي من جهة ثانية. والمشترك أنهم عرضة للملاحقات الامنية من قبل أجهزة الدولة. حتى رجال الدين الذين تولّوا النطق باسمهم، خفت وهجهم كثيراً في الآونة الاخيرة.
الكلام من بعيد بما خصّ ملف الانتخابات النيابية، لا يزال ينطلق من تصورات على أساس أن الانتخابات ستحصل وفق قانون الستين أو ما يعادله. وبالتالي، يسأل الناس عن أي تحالف سيقوم: ميقاتي – ريفي، أم ميقاتي – الحريري، أم ميقاتي – كرامي؟ في وجه الحريري في الأول، وريفي في الثاني، لتكون النتيجة المتوقعة شبيهة بنتائج الانتخابات البلدية، مع تغييرات أكيدة، بعد السؤال عن وجهة الصوتين المسيحي والعلوي في المدينة.
لكن على أي أساس ستقوم التحالفات؟
سياسياً، لا فروقات جوهرية بين الحريري وريفي والجماعة الإسلامية. لكن الخلافات قوية حول «الإمرة لمن؟». ريفي، الذي ينتقد تخلّي الحريري عن ثوابته، يرفع سقف التحدي بعناوين لا يمكن الحريري تبنّيها بعد التسوية الرئاسية وتشكيل الحكومة. ويظهر ميقاتي حريصاً على موقع وسطي، لا يتبنّى فيه شعارات ريفي، ولا يكون مضطراً إلى ردّها كاملة، فيما تستمر معاناته جراء عدم قيام علاقة سليمة وندية بينه وبين الحريري، ما يعيق أي تحالف قوي بينهما.
المشكلة تبرز في حقيقة ما يريده كل طرف من لعبة الاستقطاب القائمة حالياً. الحريري واضح في أنه يريد تنظيم خسائره، وهو يراهن على نفوذه في الدولة لاستعادة موقع الاول. وهذا هدف لا يبدو سهل المنال. أما ميقاتي، الذي مكّنته الخدمات الاجتماعية من التوسع، فهو مصرّ على الابتعاد عن مشهد المواجهة السياسية. حتى عندما قرر معارضة وصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية، لم يكن بالإمكان صرف هذا الموقف شعبياً، بخلاف ريفي الذي يبني رصيده ليس على رفض عون كرئيس، بل على مهاجمة حزب الله بوصفه مركز السلطة في البلاد. وهو كلام له صداه في الشمال، الأمر الذي يجعل مهمة الحريري وميقاتي محددة إذا أرادا المواجهة الواضحة مع ريفي، أو التحالف القادر على العيش في المدينة وخارجها.
الواضح أن قاعدة ريفي موزعة على ثلاث فئات: أولى تخصّ المحاسيب الذين وثّق علاقته بهم منذ كان مديراً عاماً لقوى الامن الداخلي، وثانية تخصّ غير المستفيدين من خدمات الحريري من أبناء الأحياء الفقيرة، وثالثة تضم الباحثين عن مرجعية تواجه حزب الله وعون. وهذه الفئة ليس فيها تمايزات طبقية واجتماعية. ومع الوقت، باتت التقاطعات بين قواعد ريفي والحريري ضيقة ومحدودة للغاية، حتى بات من غير المتوقع حصول انزياحات جديدة، اللهم إلا إذا تمكن الحريري من استمالة طالبي الخدمات.
في الجهة المقابلة، تبدو المشتركات بين جمهوري الحريري وميقاتي أكبر. فيها، أولاً، الكتلة الرافضة لما تسمّيه الخطاب المتطرف لريفي. وفيها، ثانياً، الكتلة الاقتصادية الباحثة عن مشتركات وقواسم مع أبناء الطوائف الاخرى. وفيها، ثالثاً، أبناء المدينة الساعون الى إعادة الوصل مع بقية المناطق ومع الدولة أيضاً. وفيها، فوق كل ذلك، ولو سراً، المعترضون على سلوك أبناء الأحياء الفقيرة، أو من يطلقون عليهم خزان محاور القتال.
هل من استراتيجية هناك؟
حتى اللحظة، تظهر الثغرة الكبرى في كون الجميع يحصر معركته بالشارع الشمالي. هم لا ينظرون جدياً الى علاقته بما يجري في بقية البلد. وهي ثغرة يمكن أن تجعلهم، جميعاً، مجرد قادة زواريب فقط، وتتيح لهم الاحتفاظ بمكاسب ليس فيها أكثر من صور قادة مرفوعة على جدران تخفي بؤس من يعيش خلفها... وكل ذلك يقود الى اعتبار أن «المسألة السنية» حاضرة لدى هذه القيادات، كأنها مشكلة موضعية أو تخصّ جماعة دون غيرها. وهو مكمن الخطر.
قد يكون من الجائز تذكير هذه القيادات بأن العصر الذهبي لـ»السنيّة السياسية» تراجع بقوة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو آخذ بالضمور. وسيكون المتحمسون له أمام أوضاع أصعب، إن لم تحصل المراجعة التي تشمل الدولة والعلاقة ببقية الشركاء؛ من الرئيس عون وما يمثله طائفياً ومذهبياً ووطنياً، الى حزب الله وما يمثله أكثر على الصعيد الاقليمي، ما يوجب مراجعة للعلاقة بالمحاور المتنازعة إقليمياً. وهو أمر غير متاح الآن. ولأنه كذلك، سيكون من الصعب توقع تبدلات كبيرة في المدى المنظور. وهي حال مناطق أخرى في لبنان، من العاصمة بيروت، حيث قرر خصوم الحريري (خصوصاً تجربة بيروت مدينتي) التخلي عن العنوان السياسي، الى صيدا حيث الانقسام قائم ومستمر سياسياً وإنمائياً، الى البقاع الأوسط والغربي حيث النزاعات موضعية أيضاً.
وإذا كان من الصعب مناقشة ريفي والحريري شمالاً، وربما آخرين في بيروت والبقاع، فإن من المفيد مخاطبة ميقاتي، للفت الانتباه الى أن عدة المواجهة التي عمل عليها خلال العقد الماضي قد انتفت الحاجة اليها. ومثلما يرفض هو تبنّي طروحات سعودية تستدعي خلافات مع الآخرين، فهو سبق أن رفض تبنّي طروحات حزب الله وحلفائه. لكن الحال، على صعوبتها، تقتضي منه الذهاب نحو مواجهة بعنوان وحيد هو: استعادة الشمال للدولة بكل مؤسساتها وثقافتها. وهو خيار يحتاج الى عدة جديدة للعمل. أما البديل، فهو الاستقالة الفعلية، ما يترك المسرح لآخرين، لا يملكون سوى التحريض والتعبئة العمياء، سعياً الى زعامات تعيش، فقط، على استمرار غياب الدولة أولاً وأخيراً!