أكثر من ربع قرن مضى ولم يصدر كتاب التاريخ الموحّد، الذي طالب به اتفاق الطائف في عام 1989، إذ نصّت وثيقة الوفاق الوطني على «إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية». ما حصل أنّ الكتاب القديم توقف عام 2001، وفشلت اللجان العلمية الثلاث في الاتفاق على كتاب موّحد يدرس في المرحلتين الأساسية والثانوية، لتنتشر في المقابل على نطاق واسع الكتب التي تروج لتاريخ كل طائفة.المؤرخان عصام خليفة ومسعود ضاهر، اللذان شاركا في أعمال اللجان الرسمية، يدقان ناقوس الخطر تجاه تدريس المادة حالياً في مختلف المدارس اللبنانية. برأي خليفة، «لا يمكن استمرار السكوت على تدريس تواريخ الطوائف، وليس صعباً توفير الإرادة السياسية العليا للبناء على ما أنجزناه في اللجان من مناهج وضعت في الأدراج وتحتاج إلى تعديلات طفيفة». ليس منطقياً، بحسب خليفة، أن يبقى منهج بكامله معطلاً بسبب النزاع حول بطولات كل فئة لبنانية، فالتاريخ ليس أحداثاً سياسية وعسكرية فحسب، بل يمكن إعطاء حيز واسع للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والمآثر الحضارية والثقافية.

ويوضح أننا «لم نرضَ أن تدخلنا القوى السياسية في معمعة البطولات، فلكل فئة لبنانية أبطالها ورموزها، وما منخلص، ثم ليس مطلوباً أن نضع الملح على الجرح بل نستطيع أن ندرّس التاريخ، الذي يبرز التكامل بين الطوائف، وهناك شواهد كثيرة مثل العاميات الشعبية ضد الظلم الخارجي والضرائب». لا يميل خليفة إلى تدريس الحرب الأهلية اليوم، وإذا كان لا بد من ذلك يدعو إلى مقاربتها من جوانب ثلاثة: الأسباب الداخلية والإقليمية والدولية لاندلاعها، كلفتها أي الخسائر البشرية والاقتصادية والعبر منها، أي الوحدة وعدم التبعية للخارج وعدم استخدام العنف، وليس التركيز على الصراعات بين الطوائف، ومن قتل من ومن الخائن ومن البطل؟ بمعنى آخر، يقول: «نحن كمؤرخين وتربويين لا نتبنى نظرية المؤامرة بل نتخطى المنطقين ونذهب إلى المنطق العلمي، باعتبار أن كل حدث له أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي يمكن إبراز التعايش بين الطوائف، إذ ليس صحيحاً أن كل الناس قاتلوا كل الناس».
دورنا في تعليم التاريخ، بحسب خليفة، هو تقديم عرض علمي للوقائع وإلغاء الرواية المشوّهة والتعبئة التي يتلقاها التلميذ من البيت والمجتمع ووسائل الإعلام.
يشدد خليفة على أنّه مع وضع منهج موحد يتضمن الأهداف العامة، التي تشرف عليها لجان عليا للمناهج، لكنه لا يوافق على أن يكون هناك كتاب مدرسي واحد كما ينص اتفاق الطائف، والهدف هو إيجاد التنافس في التأليف لتحسين جودة التعليم.
أزمة كتاب التاريخ المدرسي الموحد دلّت، بحسب ضاهر،على أن تعليم المادة في المدارس اللبنانية مسألة سياسية في غاية الخطورة والأهمية. فكتاب التاريخ الموحد عمل معرفي وتربوي وليس شعارات سياسية، وله دور أساسي في بناء الذاكرة الجماعية اللبنانية. ويساعد نشره على أسس علمية سليمة في تنمية روح البحث العلمي لدى التلميذ اللبناني من خلال التعرف إلى الوقائع التاريخية بدقة، وهو يكسبه متعة التعرف إلى أحداث الماضي من خلال المرويات السردية، وتنمية الخيال، والتمتع بالأساطير القديمة، ودراسة تطور الأديان، والنظم السياسية وغيرها.
الهدف، كما يقول ضاهر، هو نشر الوعي بأهمية القيم الدينية في لبنان كمصدر أساسي لنشر المبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تتنافى وجميع أشكال ومظاهر الطائفية والتعصب الديني والمذهبي، لكن فرضه اليوم يتناقض مع طبيعة النظام التربوي اللبناني المبني على حرية التعليم من جهة، ويتجاوز قدرة الإدارة التربوية على تنفيذ قرار تعسفي كهذا من جهة ثانية. والغاية المتوخاة من الكتاب هي الانصهار الوطني وليس تلقين الطلاب اللبنانيين إيديولوجية دولة طائفية متناحرة، وذلك يتطلب إرادة سياسية جامعة لنشر معرفة تاريخية علمية عن تاريخ لبنان، وتطور مكوناته البشرية والمادية، وتحولاته الحضارية، واستخدام المعارف التاريخية لتعزيز التنشئة الوطنية السليمة.
كتاب التاريخ المدرسي الموحد يندرج، بحسب ضاهر، في إطار الوحدة الداخلية اللبنانية التي تتجاوز نزاعات الطوائف والمذاهب إلى رحاب المواطن الحر، وبناء مجتمع المعرفة على أسس وطنية لا طائفية.