■ لنعُد إلى عام ٢٠٠٧، بين تلقّيك خبر الوفاة ووصول جثمان جوزف من لندن والدفن... هل أدركت وقتها فعلياً حجم الغياب الذي خلّفته حادثة الوفاة؟بداية، تصرفت على أنّ جوزف قُتل ولم يمت بسبب مرض. سيطرت عليّ فكرة معرفة «كيف مات؟» لم أكن مقتنعاً بالكامل حينها بأنه توفي بسكتة قلبية. أنا وغيري نعرف أنه حصلت عمليات اغتيال بغير الرصاص لأشخاص بحجم جوزف. وأنا لا أُخفي هاجسي من أنَّ الفريق الخصم في السياسة في لبنان والمنطقة كان يعرف قيمة جوزف أكثر من الآخرين. لذلك طلبتُ حينها من مسؤول قسم العدل في «الأخبار»، الزميل عمر نشابة، أن يذهب إلى لندن فوراً ويحاول معرفة الأمر بشكل سريع بالتعاون مع المحققين الذين يعرفهم في بريطانيا. أساء البعض فهم تصرّفي هذا، ورأوا فيه اتهاماً مباشراً لأشخاص معيّنين، لكني لم أكن أتهم أحداً مطلقاً، بل لكوني أعرف أنَّ بعض أجهزة الاستخبارات في العالم تستخدم أحياناً عالم الطب في عمليات القتل.

فكرة أنَّ «سماحة قُتل» سيطرت عليّ لسنوات بعد الوفاة، حتى تعايشتُ مع العجز عن إثباتها والميل إلى ترجيح الأسباب المرضية، خصوصاً أنها وراثية في عائلة سماحة. أمرٌ آخر فرض نفسه عليّ في الأيام الأولى، هو المتعلق بإجراءات وصول الجثمان ومراسم الدفن التي ما إن انتهت بعد أيام، حتى بدأتُ أفكّر فعلياً في التحدّيات.
واليوم، بات يمكنني القول إني في تلك الفترة رأيتُ في عيون بعض الناس ــ من عالم الصحافة وخارجه ــ وفي كلامهم ما دلّ على أنَّ موت جوزف أراحهم. هؤلاء الذين راهنوا على أنَّ مشروع «الأخبار» سينتهي مع رحيل مؤسسه، فكان التحدّي الأول بمواجهة ذلك الرهان. اتُّخذت إجراءات سريعة لتنظيم العمل في الجريدة. وعَمِلَ الفريق الذي شكّله جوزف على مواجهة ذلك التحدّي فوراً واستمرّ هذا العمل لسنوات.

■ كيف كانت مرحلة العمل الأولى بعد الرحيل؟
خسارة جوزف كانت قاسية جداً. كان يمكن أن نقف عند هذا الحد ونوقف المشروع. لكنه ترك لنا ما يشبه «كتاب إرشادات» جاهز لمَن يريد التزامَه. فسماحة كان صاحب أفكار وقيَم، وتلك لا تموت. لذا، فمَن يُرِد إكمال ما بدأه جوزف، فبإمكانه فعل ذلك، وقد أثبت فريق «الأخبار» بجدّيته أنهم على قدر التحدّي، بل أكبر منه. موت جوزف جاء في بداية الطريق مع انطلاقة الجريدة، لكن الفريق تابع المشاريع التي كان جوزف سماحة قد وضعها، ونجحوا بذلك.

■ في خضمّ تلك التحدّيات الجديدة، عند أيّ استحقاق شعرت بالحاجة الماسّة إلى وجود شخص كجوزف في الجريدة؟
مع بداية الأحداث في سوريا عام ٢٠١١. تلك هي الفترة التي شعرتُ في خلالها، كما شعر زملاء آخرون، بالحاجة إلى وجود سماحة بيننا.

ربما تذرّعنا بالصعوبات المالية لنخفي عجزنا وتخلّينا عن جزء
من دورنا المهني


■ ما هو أكثر ما احتجنا إليه لدى سماحة في خلال الأزمة السورية وأحداث لبنان والمنطقة منذ ٢٠٠٧ مروراً بـ»الربيع العربي»؟
هي العَقلنة، التي يتميّز بها جوزف والقدرة على اتخاذ مسافة باردة من الأحداث. فمثلاً، خذي سلوك الاندفاعة والحماسة التي استقبلنا بها جميعاً «الربيع العربي» مرحّبين بانتفاضات شعبية لإسقاط النظام الرسمي العربي الذي نشكو منه، أنا أعتقد أنَّ جوزف كان قد تعامل معها ببرودة أكثر، فكان ــ على الأرجح ــ رحّب بـ»الربيع العربي»، لكنه كان أثار بعض التحذيرات. ميزة جوزف أنه لا يمكن إغراقه بالمظاهر، ثم هو متابع دقيق، ولديه القدرة على فهم ما تخطط له القوى الأساسية في العالم. في «الربيع العربي»، كما في الأزمة السورية والمشاكل التي تلتها على صعيد محور المقاومة، أعتقد أنَّ وجود جوزف كان ضرورياً، ليس لتصويب الوجهة وحسب، بل للمساعدة أيضاً على حسم النقاشات. فالمتأثرون بسماحة ــ وهم كثر ــ ضاعوا، وكلّ واحد منهم تبنّى جانباً معيناً ثم قال في نفسه إنَّ هذا ما كان رأي جوزف لو كان لا يزال حيّاً.

■ وأنتَ ماذا قلتَ في نفسك؟
من جهتي، أعرف سماحة شخصياً منذ ١٩٩٣. منذ ذلك الحين لم يشرد ولا مرّة عن الوجهة السياسية التي جعلتني مقرّباً منه. كنت أثق جداً بقراءاته للأحداث وأتقبّل وجهته السياسية للأمور، وهذا ما جعلني أتمنّى لو كان موجوداً في خضمّ النقاشات التي سادت منذ الأزمة السورية، إذ كان حسم الجدل بين تلامذته وسهّل طريقة مواجهة الأمور.

■ ماذا عن مواجهة تحدّيات المهنة أيضاً التي لا تقلّ خطورة عن التحديات السياسية؟
وسط كل الأحداث السياسية المحيطة والانقسام الحاد في الداخل اللبناني، وجدنا أنفسنا أمام تحدّي عدم المشاركة بمحاولات خلق الفتن الطائفية المستمرة، فحاولنا اختراع حيل مهنية لمواكبة الأحداث من دون أن نتحوّل طرفاً متورّطاً فيها. وهنا أصابنا نوع من العجز والارتباك، وتأثرنا بالأجواء السائدة وردود الفعل والضغوط الشعبية أحياناً.
في المهنة أيضاً، لمسنا أنَّ فكرة جريدة كـ»الأخبار» نشأت في ذهن سماحة في التسعينيات، وكان هدفها منافسة التلفزيون، لكن وقتها لم يكن هناك «الديجيتل» (الموقع الإلكتروني، السوشل ميديا...) الذي بات اليوم أقوى من تحدّي الفضائيات بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة. وهنا، نفتقد جوزف المبدع في المهنة.
غيابه وازن أيضاً، على صعيد التعامل مع الأفراد. فهو، من موقعه كشخص، أكثر علماً ومعرفة ونضجاً وخبرة في الأمور المهنية، كان بإمكانه احتواء احتجاجات أشخاص كثر، وهذا ما لا أستطيع أنا بالضرورة فعله.

■ تلك كانت التحدّيات (المهنية والسياسية)، ماذا عن الخسارات؟ ماذا خسرت الجريدة مع رحيل سماحة؟
خسرنا أولاً، الكاتب الأرفع في العالم العربي. ثم خسرت «الأخبار» أمراً مهماً جداً، هو التخطيط. فقدرة جوزف على التخطيط لم تكن نظرية فقط، بل كان يضعها حيّز التنفيذ بطريقة مباشرة وفورية. مثل توزيع المهمات واختيار الأشخاص المناسبين لتنفيذها. إضافة إلى لمساته التي كان يضعها على بعض المقالات والعناوين وغيرها... وتلك الخسارة غير قابلة للتعويض. من هنا، إنَّ نظرية البحث الدائم عن شخص بإمكانه الحلول محلّ جوزف غير مجدية وغير عقلانية، والأفضل أن نتأقلم مع صيغة كيفية التصرّف من دونه. لأنَّ ميزات جوزف الكثيرة لا يمكن إيجادها بشخص واحد. الجانب الإيجابي من ناحية جوزف أنه كالأمّ التي علّمت أولادها أفعال الخير والشرّ ثم رحلت، فما كان على الأولاد سوى تحمّل المسؤولية باكراً وفق الأسس التي تربّوا عليها.

■ هل كانت «الأخبار» الجريدة الحلم بالنسبة إلى جوزف؟
أتذكّر هنا، بسخرية وألم، من كان يقول لي: «أنت ورّطت سماحة بفكرة (الأخبار)». في الواقع، يمكنني أن ألاعبه في أمور الحياة اليومية، لكن هل يعقل أنني أقدر على أخذه بيده إلى مكان لا يريده؟ ثم لا يوجد من يمكن أن يلعب بعقل شخص كجوزف، ولا أن يورّطه بمشروع جريدة من دون إرادته أو رغبته. فجوزف حمل أحلاماً مهنية في وقت مبكر، وهو على الأقلّ منذ تعارفنا عام 1993 كان يحلم بتنفيذها، لكنه واجه في كل مرة معوقات أحبطته. معوقات كانت مرتبطة بالأشخاص الذين كانوا يشرفون على الصحف التي عمل فيها جوزف، أو مرتبطة بأكلاف مادية، أو بمعوقات سياسية. لذلك، فإنَّ الرحلات التي قام بها سماحة بين «السفير» و»اليوم السابع» و»الحياة»، كانت محاولات دائمة منه لتحقيق تلك الأحلام. حتى جاءت أحداث عام ٢٠٠٥ (اغتيال الحريري وما سبقه وما تلاه) لتفتح المجال أمام نقاشات من نوع آخر أساسها سياسي، والبحث عن منبر صحافي يقول الأشياء كما هي. من هنا جاء مشروع «الأخبار» كإمكانية لتحقيق مقاربة مهنية للموقف السياسي بطريقة مختلفة وبوضوح أكثر. فألبس سماحة ذلك المشروع عدّته الكاملة من التصميم والشكل، حتى طريقة كتابة المقالات ومعالجة المواضيع. حتى إنَّ ذلك انعكس على كتاباته هو، إذ بدا متحرراً من كل الضوابط التي كان يلزم جوزف نفسه بها، احتراماً لإدارات المؤسسات التي عمل فيها، والتي كانت تقتضي منه أحياناً تدوير زوايا وتنازلات في بعض الأحيان. كتب جوزف «على راحته» في «الأخبار»، وأذكر أنَّ من بين أولى مقالاته فيها، افتتاحيات انتقدت السعودية مباشرةً، وتلك كانت من أولى المقالات النقدية للمملكة في الصحافة اللبنانية منذ عشرين سنة! أو مثلاً، المقالات التي انتقدت سياسات 14 اذار، وتلك التي دافعت عن المقاومة كخيار من دون أي مواربة... من هنا شكّلت «الأخبار» لسماحة مكاناً مريحاً حرّره من القيود في كتاباته، وأزالت الحدود لمشاريعه المهنية التي كبحتها المؤسسات السابقة.
في «الأخبار»، كوّن جوزف «خلطة» من صحافيين من مختلف المدارس المهنية (من «النهار» و«السفير» و«الحياة»...) واستطاع بسهولة وضعهم ضمن إطار مهني مختلف، جعل من مقالاتهم في «الأخبار» تأخذ صدىً لا تحظى به مقالات اخرى ــ أحياناً عن الموضوع نفسه ــ في صحف أخرى.

■ لكن جزءاً كبيراً من تلك الأحلام المهنية لم يعد موجوداً في «الأخبار» ٢٠١٧، كشبكة المراسلين في عواصم القرار التي أصرّ سماحة على تشكيلها، وبعض الصفحات التي اختفت كلّياً من التبويب الحالي مثل العلوم والتكنولوجيا والبيئة والاقتصاد الدولي والشباب... ما سبب زوال تلك الأجزاء من حلم جوزف ومشروعه؟
إضافة إلى خسارة عامل التخطيط ومتابعة التنفيذ الذي تحدّثنا عنه سابقاً، أعترِف بأنَّ «الأخبار» لم تنجح بتطوير المهارات المهنية، بحيث اكتفت بما كانت تعرفه مع جوزف واستخدمت زوّادته بأكثر مما تحتمل. لذا، مع أوّل امتحان، أي مع بداية الأزمة السورية، سادت بلبلة سياسية، انعكست استرخاءً مهنياً، ترافق ذلك مع أزمة مادية.
ربما تذرّعنا بالصعوبات المالية لنخفي عجزنا وتخلّينا عن جزء من دورنا المهني. فتوقّفت عملية التجديد في الجريدة على صعيد الأفكار والتبويب وضخّ دم جديد فيها، واستسهلنا خسارة موارد مهنية من كتّاب وصحافيين ومراسلين كان جوزف صلة الوصل بينهم وبين الجريدة. لذا، يمكنني الإقرار بأننا نحن المسؤولون عن التراجع الذي أصاب «الأخبار» بعد رحيل جوزف. تراجع أفقد «الأخبار» جزءاً من خصوصيتها وأوقف تطورها. والأهمّ، أنَّ المشروع الذي نشأت فكرته عند جوزف في التسعينيات، ثم طوّر أفكاره في بداية الـ ٢٠٠٠ ونفّذه في الـ ٢٠٠٦ مع «الأخبار»، هو مشروع بحاجة إلى تجديد كبير. اليوم في الـ ٢٠١٧، باتت «الأخبار» مشروعاً يقاتل بعدّة قديمة من القرن الماضي! أي إنَّ جريدتنا اليوم متخلّفة على الأقلّ عقداً من الزمن عن تحدّيات المهنة الجديدة. وتحدّيات اليوم غير مسبوقة.
فـ«الأخبار» يجب أن تدافع عن وجودها كجريدة ورقية أولاً، وكجريدة عصرية، وإلا فستدخل في شيخوخة مبكرة قاتلة. تحدّي «الأخبار» هو الأصعب بين الصحف الموجودة اليوم في لبنان، لأنها الجريدة الشابّة الرشيقة والمتفوّقة على صعيد الانتشار والتأثير في باقي الصحف. تحدّينا اليوم ليس المحافظة على التفوق. أحد أسباب تفوقنا، غياب منافسة جدّية في الصحافة اللبنانية. ربما يعتقد البعض أنه لغة فوقية لا تطاق، لكن في الواقع نجد أنفسنا في «الأخبار» من دون منافسين جدّيين في لبنان أو في بعض الدول العربية حتى، وسط ترهّل يأكل معظمها، حتى اليافعة منها.

■ هل كان جوزف يتخيّل أنَّ جريدة «السفير» قد تتوقف عن الصدور يوماً؟
جوزف كان يرى أنَّ الصحافة اللبنانية كانت تعيش مجداً وتقدّماً في الستينيات والسبعينيات، فقدته بعد أن تغيّر أسلوب دول الخليج في الدخول إلى السوق الإعلامية. سماحة كان يقول إنَّ في لبنان صحفاً ميتة، فإذا قامت صحيفة جديدة مختلفة ستسهّل دفنها! لكن، لا أعتقد أنه كان يتخيّل يوماً أن تقفل «السفير»، وقد أقول حتى إنه ربما كان قد لعب دوراً للحؤول دون إقفالها. ربما كان جوزف عاد الى «السفير» لمنع توقفها، فهو أحبّ «السفير» وعرف مكانتها، والعلاقة التي تربطه بالأستاذ طلال سلمان، علاقة خاصة، فيها العاطفي والمهني، وهي مختلفة مرتبطة بموقعه المميز جداً عند طلال سلمان.
ثم إنَّ جوزف، عندما كان يُعدّ لإطلاق «الأخبار»، قال مراراً وتكراراً إنَّ هذه الجريدة ليس هدفها منافسة «السفير» أو «الأخذ من دربها»، بل هي ستواجه الصحافة اليمينية في لبنان والعالم العربي. ولم يكن بالصدفة، أنَّ جوزف اكتفى بعدد قليل من صحافيي «السفير» لمشاركته تأسيس «الأخبار»، وقد كان بمقدوره الإتيان بعدد أكبر من العاملين فيها.

■ لماذا لم نجد بعد شخصاً يحقق ولو ٥٠٪ مما كان جوزف يقوم به كرئيس تحرير لـ«الأخبار»؟
أولاً، لنجزم بأنَّ مقارنة أيّ شخص بجوزف هي مقارنة مضرّة. ثانياً، كان هناك مشكلة في الأشخاص الذين تولّوا مهمات إدارة التحرير بعد جوزف، أي تباعاً، خالد صاغية وأنا وحالياً بيار أبي صعب. خالد، كانت لديه ميزتان: الأولى أنه يعرف جوزف كثيراً ويحبّه ومتأثر به على أكثر من صعيد. الثانية أنه ليس من النوع الذي ينفّذ كعسكري ما يقترحه عليه الآخر. لدى خالد من التمرد ما يكفي ليصنع منه شخصاً مقاتلاً عندما يريد. وقد صرف خالد سنوات طويلة من عمره يحمي الجريدة ويحافظ على جزء من إرث جوزف، وخاصة لجهة النباهة والتجديد وروحية العمل. لكن، خالد، عندما برزت أزمة سوريا، لم يكن قادراً على البقاء في مشهد «الأخبار». قدّم خالد موقفه السياسي على أي اعتبار آخر، وهذا ما أدى إلى حصول صدام.
عندما تولّيتُ أنا المسؤولية، واجهتُ عائقين: الأول، أنه كان لديّ أصلاً مسؤوليات إدارية وهي تتطلّب وقتاً كبيراً، بينما على رئيس التحرير أن يكون متفرّغاً لقضايا التحرير مع اهتمام جزئي بالتفاصيل الإدارية. العائق الثاني، أنه ينقصني الكثير من عناصر الكفاءة التي يجب أن تتوافر في رئيس تحرير، فأنا لا أمتلك المخزون المعرفي المناسب الذي يسمح لي بالتصدّي لكافة العناوين التي تعالجها الجريدة، فما أمتلكه من قدرة في المعرفة والاطلاع وشبكة العلاقات، وما تعلّمته من سماحة، قد يجعل مني صحافياً ناجحاً، لا رئيس تحرير. في الواقع، أنا لم أتصرّف يوماً على أساس أني رئيس تحرير، ولولا الموجبات الإدارية التي تفرض ذلك، لكان الموقع ما زال شاغراً حتى الآن، لذلك فإن عنوان هذه المقابلة واقعي، فالجريدة ما زالت في طور «البحث عن رئيس تحرير». علماً، أنه في عالم الصحافة الحديثة اليوم، على رئيس التحرير أن يتمتّع بدور قيادة فريق عمل هو الذي يقوم بمهمات رئاسة التحرير الفعلية. لذلك، هناك عناصر إضافية جديدة يجب أن تتوافر في مَن سيتولّى منصب رئاسة التحرير في الـ ٢٠١٧.
واليوم، نحن أمام تحدّي تكليف الزميل بيار أبي صعب مسؤوليات مباشرة إضافية على صعيد إدارة التحرير. وبيار متأثر بجوزف على الصعيد الشخصي والمهني، وهو أحد مؤسسي الجريدة، وأنا وبقية زملائي، نراهن على قدرة بيار على تجاوز بعض العوائق القائمة، والدفع بـ»الأخبار» نحو مواقع أفضل.
أما مهمة إيجاد كاتب نص افتتاحية يومية مثل جوزف، فذلك يبقى حلماً، ومهمة صعبة جداً.

ـ ■ لمَن تقرأ افتتاحيات الآن؟
جوابي سيكون مزعجاً، أو قاصراً. ٩٠٪ من المقالات التي أقرأها، أطالعها لأني مُجبَر على ذلك بحكم المهنة. لكني ما زلت أكثر إعجاباً بالكتّاب في صحافة العدو. معجب بقدرتهم على المواءمة بين أدب سياسي يعكس مخزوناً معرفياً كبيراً، وبين الكتابة الصحافية مع موقف سياسي.

ـ■ مع من تناقش الأحداث الدائرة اليوم؟ وإلى من تلجأ للإجابة عن بعض الأسئلة العالقة في السياسة وفي المهنة؟
لطالما كان والدي مرجعاً مهماً في كثير من الأمور. وصار جوزف حكماً يبتّ في كل أمور أواجهها. اليوم ألجأ صراحة، إلى السيد حسن نصر الله، لسماع رأيه ببعض الأحداث المهمة انطلاقاً بثقتي بتشخيصه لمجريات الأمور. السيد حسن شخص عالم وحكيم، وأنا بحاجة للمعرفة والحكمة في الأحداث الكبيرة، وفي بعض تفاصيل الأمور البسيطة حتى.
وفي الأمور المهنية أحاول جاهداً الاطلاع على آخر تطورات المهنة من خلال قراءات كثيرة، سعياً إلى اللحاق بالتغيرات السريعة، ومواكبة التحديات في ظل غياب مركز دعم يوفّر لي الاستشارات والنصائح المهنية.

■ هل تعرف ما هو رأي السيد حسن نصر الله بجوزف، خصوصاً أنَّ لقاءات عديدة جمعتهما سابقاً؟
مرة قال لي السيد حسن: «تخيّل لو أنَّ جوزف ضدنا!»، كان السيد قارئاً متابعاً لجوزف، ومعجباً بكتاباته، وكان يُسَرّ بمناقشته، ويثق بعقله. وكالعادة، كان جوزف بالنسبة إلى من يناقشه محفزاً للأفكار والتحليل. بالمقابل، كان جوزف يشعر بالطمأنينة تجاه السيد حسن، انطلاقاً من اقتناعه بأنَّ السيّد صادق في كلّ ما يقوله. فمثلاً، كان جوزف يعرف تماماً ماذا يعني أن يقول السيد: «نحن جاهزون لمواجهة إسرائيل». فهو يدرك ماهية تلك الجاهزية. وعلى الصعيد الشخصي، كان جوزف يحبّ السيد حسن، رغم مشكلة سماحة مع رجال الدين، وهو في جلساته الطويلة معه لم يناقشه يوماً كرجل دين، حتى أنه في إحدى المرّات، وفي خضمّ نقاش، اضطر السيد إلى تذكير جوزف بأنه «رجل غيبيّ يؤمن بأنَّ الكثير من الأمور هي من صنع الله وليس من صنعنا كبشر».

■ قال سماحة إنَّ «الأخبار» جريدة جذرية راديكالية بالسياسة، ولها هوية سياسية واضحة، وهذا لا يلغي القدرة على أن تكون موضوعية وتوفّر مساحة لكلّ الأطراف والقوى للتعبير عن نفسها... أين نحن من ذلك اليوم؟
ما قاله جوزف يعني بوضوح أنّه عندما نكتب موضوعاً عن «القوات اللبنانية» مثلاً، علينا أن نقصدهم، ونتحدّث معهم، ونشرح وجهة نظرهم. لكن لا يعني مطلقاً أن أدعو كاتباً قواتياً ليكتب مقالاً أو افتتاحية في «الأخبار».

كان السيد حسن معجباً
بكتاباته ويثق بعقله، قال لي مرّة: «تخيّل لو أنَّ جوزف ضدنا!»
وجهة نظر اليمين في لبنان والعالم موجودة في الجريدة بالتناول الموضوعي لقضاياهم، لكن الجريدة ليست منبراً لأصوات اليمين. هنا يجب التفريق بين الحياد والموضوعية. كان سماحة يصرّ على شرحها بالقول إني لستُ محايداً ولديّ مواقف من كل قضية، لكني ملزم موضوعياً بتوفير العناصر المهنية لأيّ موضوع. مثلاً، كان سماحة يقبل بترجمة مقالات من صحافة العدو، لكونها تعبّر عن فكرة واضحة، وبما يخدم قضيتنا، لكنه لم يكن يهتم أبداً بتقديم نسخة عربية من «هآرتس»!
«الأخبار» في الـ ٢٠١٧، هي الجريدة التي لديها اتصالات مع كلّ الأطراف، دون استثناء، ونجحنا في إثبات أنَّ الخصومة السياسية لا تعطّل العلاقة المهنية، فمن ننتقدهم بالسياسة علناً في صفحات الجريدة لا يمكنهم الادعاء أننا كجريدة مقصّرون معهم، لناحية عرض أخبارهم ومواقفهم.

■ هل يمكن أن تنشر «الأخبار» مقالاً ضد سلاح حزب الله مثلاً؟
يمكن أن ننشر مقابلة مع شخصية تدعو فيها إلى نزع سلاح حزب الله، لكن لن ننشر مقالاً يدعو إلى نزع سلاح حزب الله من باب توفير مساحة للرأي الآخر، كذلك لن ننشر مثلاً مقالات عنصرية ضد فئات معينة أو شعوب أو ديانات. نحن اختلفنا مع الزميل الشهيد ناهض حتّر، لأنه أورد في مقال له عبارات رأينا فيها إساءة إلى جزء من شعب، بينما كنا ــ الشهيد ناهض و«الأخبار» ــ على توافق فكري وسياسي. لكن «الأخبار» نشرت في أكثر من مناسبة وما زالت، ردوداً مناقضة لخطّها السياسي... لكن لماذا لا نسأل نحن من يأخذ علينا ذلك: هل تنشر جريدة «الحياة» أو «الشرق الأوسط» أو «العربي الجديد» مقالاً واحداً يقول إنَّ السعودية ترتكب مجازر في حربها على اليمن؟ هل هناك مقالات في «النهار» تهاجم سياسات الحريري و١٤ آذار؟
لنأخذ ما جرى معنا، في أثناء الإعداد لهذا الملف. عرضنا على صديق جوزف الزميل حازم صاغية أن يكتب، ولم يكن لدينا أيّ مشكلة في أن يتناول حازم ما يشاء من المواضيع، لكنه امتنع، متذرعاً بأنه يريد أن يكتب عن قضية قد لا توافق «الأخبار». نحن لا نعارض الأمر، ما دمنا نحن من دعوناه إلى الكتابة. لكن حازم افترض أمراً غير موجود. علماً أنه كان يريد كتابة مقال افتراضي، عن موقف جوزف من الأزمة السورية.

■ إلى أيّ مدىً أتعبَك رحيل سماحة؟
«بيطلعلي جوزف بالحلم»، يراودني حلم (منام) باستمرار منذ وفاته. يظهر جوزف كأنه لم يمت، بل هو اختفى لبعض الوقت. أراه حيّاً، يقف إلى جانبي، لكن لم يحصل مرة، أن نطق بكلمة، أنا أكلّمه طوال الوقت، وهو لا يردّ بأيّ تعليق. أستيقظ وأنا أحاول أن أترجم ما قد تعنيه تلك العبسة أو الابتسامة الصامتة... هل هو غير راضٍ عن أمر ما؟ هل هو مسرور؟ كانت كارمن لبّس تتصل بي، تسألني عن أحوال الجريدة. لتعود وتقول إنها رأت جوزف في الحلم، وقد انتابها القلق.
أنا وضعت سماحة كرقيب على كل أفعالي، وقد عملت على أن أُخرج نفسي من دوّامة التفتيش على شخص يشبهه. الهمّ الوحيد الباقي اليوم هو في أن نستمر بإنتاج جريدة تشبه مؤسسها. قد نكون ارتكبنا أخطاءً، لكننا لم نخُن جوزف يوماً في مبادئه الأساسية.