تشكل المتحجرات عموماً، والأسماك منها خصوصاً، ظاهرة لافتة للنظر منذ قرون عديدة، إذ ذكرها عدد من آباء الكنيسة كالقديس أغوسطينوس(1)، إيبوليت أو أوسابيوس القيصري(2)، وهو الأهم بالنسبة إلينا، لأنه يذكر في حولياته الأسماك المتحجرة في الجبال اللبنانية، فيتحدث عن «المعاينة الشخصية لبعض الأسماك التي وجدت في زمننا على المرتفعات حتى رؤوس الجبال الأكثر ارتفاعاً في لبنان، لأنَّ بعض العمال الذين كانوا يعملون على نحت الحجر في الجبال للبناء، وجدوا عدة أنواع من الأسماك البحرية، التي تحجرت مع الطمي في التجاويف في أعالي الجبال، وحصل أن بقيت إلى الآن كالمأكولات المملحة».
ويعدّها دليلاً على مرحلة ما قبل الخلق، وفق رواية سفر التكوين، حيث كانت الأرض مغمورة بالمياه والظلمات. ومن اللافت قراءة ما يقوله أغسطينوس في تطور بعض الأنواع واختفاء بعضها والتبدل الطارئ على المخلوقات عموماً. إضافة إلى إشكالية الزمن وحدود الأرض وغيرها من الأبحاث ذات الصلة.
بعدها بقرون، تحديداً في القرن الثالث عشر، يذكر المؤرخ الفرنسي جان دو جوانفيل، المعاصر للملك لويس التاسع أنه «في 1248 عندما كان الملك في الحملة الصليبية في فلسطين جيء بحجر ذي عدة طبقات، الأروع في العالم، لأنه عند رفع كل طبقة نجد بين طبقتين شكل سمكة بحرية»(3).
بعد هذه الشهادات القديمة والمهمة، علينا الانتظار لعدة قرون قبل الحصول على أولى التصاوير للمتحجرات السمكية من سلسلة جبال لبنان الغربية، إذ يمكن اعتبار الرسوم الواردة في كتاب جوهان-جاكوب شوتزير (1672-1733)، وهو طبيب وعالم أحياء سويسري، اشتهر أيضاً بتفسير وجود المتحجرات كدليل على الطوفان البيبلي، الواردة في كتابه(4) المطبوع سنة 1708، يكمن اعتبارها أولى الرسومات من نوعها. إضافة إلى شوتزير، كان مواطنه فرانسوا-جول بيكتيه (1872-1809) أول من درس الأسماك المتحجرة بطريقة علمية.
تجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت المتحجرات قد لفتت نظر كتّاب عديدين منذ القدم، فالمقاربة المنهجية والعلمية للأمر حديثة نسبياً مع الباليونتولوجيا، لأنها علم حديث لا يرقى إلى ما قبل نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. تحديداً بعد أعمال «كوفييه» (1832-1769) و»لاماك» (1829-1744). إضافة إلى أن مصطلح باليونتولوجيا نشأ بالتزامن مع أعمال العالمين المذكورين، تحديداً في فرنسا في 1822 على يد هنري دو بلانفيل (1850-1777). وقد بقيت الباليونتولوجيا طويلاً متواضعة في مكانتها لارتباطها تاريخياً بالجيولوجيا وتأثير القراءات البيبلية في القرن التاسع عشر التي لم تسهل الاعتراف بها علمياً. يشهد على ذلك عملياً تأخر ظهور الكراسي الجامعية المخصصة للباليونتولوجيا قياساً بتلك المخصصة للجيولوجيا، ويتمحور ظهورها في منتصف القرن التاسع عشر غالباً، في أوروبا أساساً وبعض الجامعات الأميركية، إضافة إلى الأكاديمية الصينية في بكين. للباليونتولوجيا هواة من غير الاختصاصيين، ورواد من المهتمين، وبفضلها يمكننا اليوم الحديث عن عالم مختلف عن الأرض كما نعرفها اليوم، مسكون بحيوانات برية وبحرية زالت من الوجود أو تطور بعضها الآخر. لعل أكثر ما يثير في الأمر هو مقارنة المدة الزمنية للحضارة البشرية منذ اختراع الكتابة مثلاً إلى اليوم، أي نحو 6000 سنة فقط، بمقياس العمر الجيولوجي لبعض المتحجرات الذي يقاس بعشرات ملايين السنين!
في لبنان تنتشر المتحجرات من عدة أنواع في مناطق عديدة، سمحت بها العوامل الجيولوجية وغيرها بتكونها، وأظهرتها عوامل الحتّ والتعرية. أما المتحجرات السمكية، فيبلغ عدد المواقع المعروفة والمعلن عنها 5، هي: حاقل وحجولا، وتعود سوياتها إلى نحو 100 مليون سنة، النمورة نحو 90 مليون سنة، وساحل علما 75 مليون سنة، إضافة إلى حمطورة. عدا باقي المواقع المكتشفة التي لم يعلن عنها بعد، بحسب ما يفيد بيار أبي سعد، ناظر متحف الأسماك في جبيل والمتخصص في الباليونتولوجيا من جامعة ليون.
عملياً، يملك المواقع اللبنانية عدد من الأفراد من عائلات توارثتها منذ ثلاثة أو أربعة أجيال، كعائلة رزق الله في حاقل، وعائلة أبي سعد في حجولا، يهتمون بها منذ ثلاثة أو أربعة أجيال.
حديثاً في التسعينيات بدأ العمل بالتوسع، إذ بتنا نجد بعض صالات العرض والبيع الصغيرة في أكثر من مكان في قرى جرد جبيل القريبة من المقالع أو التي حالف الحظ أحد أصحابها بوقوع بعض السويات في أرضه. لكنها في الغالب صغيرة وتفتقر إلى الاحترافية. لا يشذّ منها إلا متحف «ذاكرة الوقت» في جبيل لأسباب عديدة.
تشكل الأسماك المتحجرة نحو 90% من موجودات هذه المواقع، أما الباقي فيتوزع على الحشرات والنباتات.
وإذا كانت المواقع اللبنانية لا تشكل حالة فريدة عالمياً من ناحية وجودها، فقد اكتشف منها في فرنسا، إيطاليا، ألمانيا وأوستراليا على سبيل المثال، لكنها تتميز عن باقي المواقع بأمرين أساسيين: التنوع المدهش في الأسماك، ونوعية الحفظ الممتازة. وعن نوعية الحفظ يشرح أبي سعد السبب، وهو طريقة تشكل المتحجرات. فهي تشكلت في وسط بحري معزول نسبياً عن امتداده المحيطي وينقصه الأوكسيجين بسبب هطولات دفيئة أدت إلى تكاثر العوالق البحرية التي امتصت الأوكسيجين. الأمر الذي شكل ظاهرة إخصاء للماء، قلت فيه نسبة الأوكسيجين، ما نتج منه موت لهذه الأسماك، وتراكم لها في القعر دون تحلل وبدء عملية التحجر مع عوامل الضغط والطمي وانعدام الأكسدة، وصولاً إلى انحسار بحر «تيتيس» جد البحر المتوسط الذي كان يغمر مساحات كبيرة ممّا هو يابسة اليوم في منطقتنا.
تضم المجموعات المكتشفة إلى الآن في لبنان نحو 450 نوعاً من الأسماك المتحجرة، 80% منها أسماك منقرضة. أما الباقي، أي نحو 20% فقد تطورت، ولم يعد الكثير من هذه الأسماك على حالها وشكلها وخصائصها حالياً، مقارنةً بما كانت عليه في الفترة التي تحجرت فيها، أي منذ نحو 75 إلى 100 مليون سنة.
وعدا عن كونه متحفاً لعرض القطع السمكية النادرة، إضافة إلى أنواع أخرى من لبنان والخارج، ومتجراً لبيع قسم آخر منها، يمكن اعتبار «ذاكرة الوقت» مؤسسة بحثية خاصة لعدة أسباب أساسية. الأول هو أنَّ القيِّم على الأمر متخصص أكاديمياً في موضوعه. الثاني يكمن في المعايير العالية المتعلقة بسياسة البيع. فالمتحف لا يقوم ببيع أي قطعة سواء خارج لبنان في داخله إلا إذا توافر منها 4 إلى 6 أحجام من كل نوع وعدد مماثل لكل حجم، ما يرفع عدد المحتفظ به إلى 40 أو 50 قطعة للنوع الواحد. السبب وراء «الإفراط» بتنوع الأحجام هو الإمكانية الأكبر والدقة في دراستها ومدى جدية الاستنتاجات المبنية على المشاهدة. أخيراً، المتحف ينشر مقالات علمية فيها خلاصة ما يتوصل إليه البحث من اكتشاف لأنواع جديدة أو تفاصيل داخل النوع ومعلومات أخرى قيمة علمياً. تتوزع هذه المقالات على مجلات علمية في ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة والولايات المتحدة، نظراً إلى عدم وجود مجلات كهذه في لبنان والمنطقة. إضافة إلى كتاب علمي بعنوان «متحجرات لبنان، ذاكرة الوقت» بالفرنسية والإنكليزية، ويجري حالياً إعداد نسخة بالعربية بالتعاون مع الجامعة اللبنانية الأميركية. والكتاب مؤلف جماعي بين ميراي غايي، أوليفييه غودان وبيار أبي سعد. إضافة إلى الحرفية في الكشف عن السمكة المتحجرة، إذ لا يكفي فصل طبقتين من الحجر الكلسي عن بعضهما لتظهر المتحجرة بوضوح، بل تتطلب عملية معقدة نسبياً لتنظيفها. ومع تطور أدوات العمل يمكن القول إن نسبة المحافظة على السمكة تبلغ 95% مقابل نحو 50% سابقاً، ما يزيد من أهميتها جمالياً وعلمياً.
إضافة إلى المتحف الدائم «ذاكرة الوقت» في جبيل، يشارك بيار أبي سعد بنحو 185 قطعة من المجموعة السمكية في متحف المعادن(5) في الجامعة اليسوعية في بيروت، وهو افتتح في 2013، ويُعدّ من أغنى المتاحف عالمياً بمجموعته التي تضم نحو 1600 قطعة لأكثر من 300 نوع من 61 دولة. كذلك سيشارك أبي سعد بنحو 10 قطع على سبيل الإعارة لمهتمين بالأمر، بهدف تنظيم معارض موقتة في لبنان لتعريف طلاب المدارس بهذه الثروة الطبيعية، كالمعرض الذي سيقام في القبيات في أيار المقبل. إضافة إلى ما ذكر، ينظم المتحف رحلات أسبوعية لطلاب المدارس في فصلي الربيع والصيف، للتعرف إلى المقلع وآلية العمل فيه، والمشاركة في البحث عن الأسماك، ويسمح للتلامذة بالاحتفاظ بالأسماك الصغيرة التي يكتشفونها في ثنايا الحجر، لعل الزيارة تُسهم في خلق مشاريع باحثين مستقبليين في هذا المجال.

1(La Cité de Dieu, Livre XV, Ch. IX)
2(Chroniques, Livre I, Ch. XVI)
3 (Sire de Joinville, Histoire du Roi Saint-Louis, 1547).
4 Piscium querelae et vindiciae
5 Musée des Minereaux