لندن | لورانس بيرغرين (1950) كاتب أميركي متخصص في رواية سير الرحّالة والمستكشفين، كتب نصوصاً طويلة عن كريستوفر كولومبوس، وفريديناند ماجلان، وماركو بولو ولويس آرمسترونغ. لذا فكتابه الجديد «كازانوفا - عالم عبقري الإغواء» (Casanova: The World of a Seductive Genius) الذي صدر بالإنكليزيّة قبل أسابيع، ينجح في تجاوز الكليشهات المتداولة عن سيرة الرجل الذي صار في المخيال الشعبي العالمي رمزاً لشخصيّة معبود النساء.
هنا، تبدو قصة جياكومو كازانوفا (1725 ــ 1798) كأنها سيرة مستكشف أوروبي آخر، يأخذنا لا إلى حواف الكون غير المطروقة من قبل الرجل الأبيض كما الرحالة الآخرين، بل في جولة ثريّة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في أوروبا القرن الثامن عشر. عبقري الإغواء قضى وقتاً طويلاً من حياته المثيرة متنقلاً بعربات الخيل بين مدن أوروبا العصور الوسطى، بحثاً عن ضحيّة جديدة، أو فارّاً من مطاردات تسبّبت فيها مغامراته العاطفية أو المالية بدءاً من مسقط رأسه البندقية.

حين يتسرب الحب إلى القلوب، يبدأ كلا الطرفين في الخداع

في سنوات المراهقة، تنقل كازانوفا عبر إسطنبول، وروما، وكورفو وفينيسيا، وفي عشريناته بين بارما وجنيف وليون وباريس ودريسدن وبراغ وفيينا، بينما عاش ثلاثيناته بين أمستردام، وجنيف، وزيوريخ، وشتوتغارت، ونابولي، وروما، وفلورنسا، ومودينا، وميونيخ، وباريس، وتورين ولندن. هكذا، بقي من مدينة إلى أخرى إلى أن نفد حظّه ونقوده معاً في أواخر خمسيناته، فاضطر لقبول وظيفة هامشيّة كأمين مكتبة في قلعة منعزلة كئيبة في بوهيميا. هناك بين أرفف الكتب المهملة والجدران الصلدة، ملأ كازانوفا فراغه بكتابة مذكراته التي لم تكتمل، إذ تذكره قدره المحتوم وهو ما زال يسرد مسارات مغامراته العجيبة، ليتوقف النص عند أحداث حياته الحافلة حوالى عام 1774.
رحلات كازانوفا لم تكن مجرد تنقلات جغرافيّة بين المدائن، فهو في كل مكان مضى إليه، كان ينجح بحضوره وشخصيته البراقة في اختراق المجتمعات التي يزورها بكل مستوياتها الطبقيّة. هناك تقارير مؤكدة عنه أنه التقى بنجامين فرانكلين وفريدريك الأكبر ملك بروسيا، وكاثرين الثانية ملكة روسيا، وبابا الفاتيكان كليمنت الثالث عشر، وجان جاك روسو، وفولتير، وموتزارت وغيرهم من رموز العصر. أمضى جلّ وقته بين علية المجتمع الغامضة من النبلاء والوزراء والسفراء والممولين والماسون ومدعي السحر. لكنه أيضاً اختلط بطبقات تلك المجتمعات الدّنيا، من المقامرين والممثلات والراقصات وبائعات الهوى وشذاذ الآفاق. أفرغ جيوب العشرات من المغفلين والمغفلات، من دون أن يرف له جفن، بل نقل عنه قوله إنّه «كان يسدي لضحاياه خدمة كبيرة لأنه يفتح عيونهم على حماقتهم». وعن ضحاياه من النساء بالذات، فإنه يقول «إنّ الحب عندما يتسرب إلى القلوب، فإن كلا الطرفين يبدآن في الخداع»، مبرراً بالطبع لنفسه سرقة أملاك عشيقاته الكثيرات اللواتي نجح بعضهن في سرقة أموال من كازانوفا، لكن غالبيتهن كن في الحقيقة مسالمات لعبت برؤوسهن كؤوس الغرام، وانتهين على يد كازانوفا مفلسات أو شبه مفلسات.
تتوافر لدينا معلومات كثيفة عن سيرة كازانوفا في السنوات الخمسين الأولى من عمره، إذ كان قد شرع في كتابة مذكراته بعدما انتهت به الأقدار معدماً ومطارداً في قلب أوروبا. ورغم أنه لم يعش ليروي سيرة آخر ٢٥ عاماً، إلا أنها ربما تكون أطول مذكرات معروفة، إذ ترك لنا حوالى ٣٦٠٠ صفحة مكتوبة بخط جميل طبعت لاحقاً في 12 مجلداً بعنوان «قصة حياتي» (تأخر نشر النسخة الكاملة منها إلى عام ١٩٦٦) ومنها ينقل بيرغرين عنه القول: «لقد قضيت عمراً كانت فيه مهمتي الوحيدة في الحياة اغتراف كل ما يجلب المتعة للحواس»، وأيضاً «أحببت النساء دوماً، وعملت كل ما من شأنه أن يجعلني محبوباً من قبلهن»، كما لم ينكر ولعه الشديد بأطايب الطعام. لكنه ادعى «أنّ حواسه الذّواقة لم تقعده يوماً عن أداء الواجب»! والواجب عند كازانوفا بالطبع قد يكون أي شيء سوى أن يؤدي شيئاً للآخرين. لقد كان محتالاً كبيراً، نجح في التلاعب بقلوب الناس من بابوات روما إلى الفتيات.