دروع تقدير، أوسمة استحقاق، وشهادات عالمية ولبنانية تتكدّس في بيت وجيه نحلة (مواليد الصنائع ـــــ 1932 ــــ 2017)، كما يتكدس فيض لوحاته، فيضيق بها المكان الكبير في الرابية، حيث كانت تطيب له دعوة الأحبة. بيت أراده حصنه وقلعته و«محتفه»، فنسج كل ما فيه منه وزيّنه بيديه، حتى نبتة الحبق أمام المدخل.
«اطلعوا لعندي عالبيت» كان يرددها بكرم المضيف ورحابة المحبّ وإصرار فنان. يوزّع الأعمال، يكتب للكل أسماءهم، ويمهرها بإمضائه ختماً للذكرى وللتاريخ.
أمس، غاب موزّع الأحرف والضوء عن 85 عاماً عاشها ابن بلدة الطيبة الجنوبية، بين الشهرة والمجد والتكريم، والكثير من فرح اللون.
85 عاماً صاغها بيديه نحتاً وحرفاً ولوناً... وبهجة. نادراً ما كنت تراه غير ضاحك! مجرد وجود ضيوف لديه، يحيله طفلاً حلّت عنده ساعة الفرصة بعد درس طويل.
علاقته بلوحاته أشبه بغريزة أمّ مع أطفالها، تعشقهم، تراهم الأفضل، وتفتخر بهم! ومتى اشتد عودهم، ترسلهم إلى كل بقاع الأرض سفراء، وتبقى هي المرجع. لذا كان بديهياً أن تكون لوحاته في مطار بيروت، تستقبلك، أو تودعك. فهنا المرفق الذي يربط توزع ألوانه إلى كل بلاد الدنيا، والمعبر الأساس لنشر «حرفه» المخضب باللون.
من الزخرفة الحروفية إلى التجريد الغنائي، مروراً بالانطباعية في أوائل الخمسينيات، ثم ملامسة السريالية عبر رسم الجسد الأنثوي، والخيول الهائمة... كانت ريشته بالحيوية الراقصة ذاتها، تنسج «اشراقة» كما كان يحلو له أن يقول.
تتلمذ نحلة في البداية على يد المعلّم مصطفى فروخ، ودرس تقنيات الرسم وأصوله. أولى رسماته كانت مع المعلم فروخ لمناظر طبيعية خارج المحترف، بشكل أساسي: البحر وغروب الشمس. ثم أخذ عن المعلم عمر أنسي تقنيات التلوين المائي. مزيج فتح له افقاً جديداً بشكل خاص في عالم المائيات، فتمكّن الفنان الشاب حينها من لعبة الضوء والظل.
كانت الطبيعة المصدر الأول والاساس لوجيه نحلة وانطلاقته التشكيلية. لاحقاً، شارك في معرض الخريف السنوي، حاصداً الجوائز تلو الأخرى. «ابحث يا وجيه في هذا الشرق عن الكنز! هذا ما قاله لي استاذي مصطفى فروخ قبل وفاته». قالها في إحدى المقابلات التلفزيونية.
من اسطنبول الى بغداد فالمغرب العربي... رحلات مكثفة جعلته يغوص أكثر في عالم الحرف، فتعلّم أصول الخط العربي، وبدأت رحلته النحلوية في التشكيل والزخرفة بالحرف العربي. «أخذتُ جمالية الحرف وتشكيله في التلوين، من هنا ابتدأت» يقول نحلة في وثائقي «سيمفونية اللون» الذي رصد مسيرته الفنية. انطلق وجيه في رحاب الحرف، واستوحى التراث البيزنطي، والاشوري والاسلامي الزخرفي. كان طالباً في كلية الفنون الجميلة في الهندسة المعمارية، لكنه سرعان ما انتقل إلى قسم التشكيل حيث قلبه وعقله وغاية مناه.
ثم كانت الحرب، لكن وجيه أرادها حرباً لونية على الحرب العسكرية. رسم اللون البهيّ والضوء الفرح، ليصدّره إلى الدنيا بدلاً من قذائف التناحر الاهلي. شحن الاعمال الى المطار، تعرّضت الشاحنة للقنص، واخترق الرصاص لوحاته. تابعت الشاحنة السير الى المطار، طارت اللوحات الى باريس رغم القصف، وعرضت في العاصمة الفرنسية رغم محاولات «اغتيالها»، وأثر الرصاص فيها، شاهدةً بذلك على حقبة لم يردها وجيه نحلة أن تبقى. وهكذا كان، انتهت الحرب... أما اللوحات فبقيت.
ذاع صيت وجيه نحلة في القارات كلها، من أميركا الى أوروبا وأفريقيا، إلى أستراليا... ثم اقتنى متحف الـ «متروبوليتان» أعماله من بينها لوحته الحروفية الزخرفية «الحمدلله».
بعد الثمانينيات، تحول الى التجريد الغنائي، فكان الأزرق اللون الأكثر حضوراً، وكان امتزاج اللون بمقابله في السلم القيمي، لعبة أساسية للتناغم لديه. وهي ربما أكثر مراحله شهرة بعد المرحلة الحروفية الزخرفية، من دون أن ننسى الكم الضخم من المنحوتات التي تكاد تزين كل معلم لبناني رسمي أو غير رسمي.
وجيه نحلة لم يترك للبنان إرثاً فنياً ضخماً فحسب، بل ترك خمسة أبناء وبنات فنانين، اشترك معهم في بناء مساحات فنية وفي لعبة التشكيل الكبرى... كما ترك عملاً على 200 متر مربع (قطعة واحدة) نفذه وحده بكل زخم وحبّ... وفرح ونور.
نور عبّر عنه بدقة متناهية قبل عامين: «في مخيلتي، نور أحاول ترجمته حياً على اللوحة. يثير في نفسي صوراً وأشخاصاً ليسوا كالأحياء بل هم أحياء. يخاطبون وجيهاً آخر... وجيهاً لن يغلبه الزمن ولن تركعه الأيام. هؤلاء الأشخاص الأحياء مصنوعون من نور كما هي المرأة! المرأة نور يفوق وزن الهواء ويحملها نسيم أزرق، فترفرف فوق رأسي وأضطر الى الصعود على سلم مع ريشة كي ألامس جناحيها».

* يوارى الثرى اليوم (11:30) في جبانة «روضة الشهيدين» (بيروت)