تحلّ هذه السّنة الذكرى المئوية للثورة البلشفية في روسيا، التي أدّت الى بناء الاتحاد السوفياتي والتجربة التي فرضت نفسها وغيّرت العالم، ثمّ سقطت وانتهت عام 1991، وما زلنا نعيش الى اليوم مضاعفات اندثارها. مع مرور الزمن وانقلاب السياسة، لم يعد موضوع الاتحاد السوفياتي وتجربته مسألةً ايديولوجية، أو سؤالاً خاصاً بالماركسيين والشيوعيين، بل أصبح تاريخاً يعنينا جميعاً، وتجربة يعتبر فهمها والتعلّم منها ضرورةً لتكوين وعيٍ تاريخي عن عالمنا المعاصر.
تأثير التجربة السوفياتية، كما نعلم، لم يقتصر على مجالها المباشر. كلّ الرأسمالية الغربية تغيّرت كردّ فعلٍ على التحدّي السوفياتي، والعالم الثالث ــــ في آسيا وافريقيا ــــ قلّدهم في بناء الاقتصاد المخطّط واستيراد التنظيم الحزبي «الحديث». فكرة «دولة الرعاية» و»الحلم الأميركي» ووعد الدّولة الغربية بالرفاه والمنزل الجميل والسيّارة لأغلب مواطنيها لم يكن الّا ردّ على صعود المنظومة الشيوعية. حتّى أواخر العشرينيات في اميركا، للمقارنة، كان رئيسٌ كهربرت هووفر يبني نظاماً اقتصادياً ليبرالياً بالكامل، بل ومشجّعاً للاحتكارات والمصالح التجارية الكبرى، ومن دون أن يلقي بالاً لوضع العمّال والفقراء ومن سيسحقهم هذا النّظام (فهم لم يشكّلوا قوة سياسية أو يلتفّوا حول عقيدةٍ توجّههم وتهدد النظام).
في السياق نفسه نجد فكرة اسبوع العمل «القصير» والتعويضات والإجازات، ووعود الدولة الكينزيّة (منذ الستينيات) بأنّ ساعات العمل ستنخفض تدريجياً مع تراكم النموّ والثروة والتقدّم التكنولوجي؛ بحيث أنّ المواطن الغربي، بحلول القرن الحادي والعشرين، لن يضطرّ الى العمل الّا لبضع ساعاتٍ في الأسبوع، وسيكرّس أكثر وقته لعائلته ونفسه وهواياته ــــ فتكون الرأسمالية قد حرّرته من الرأسمالية. اليوم، بعد ربع قرنٍ من سقوط الاتّحاد السوفياتي وفي عزّ انتصار النيوليبرالية، يقول مقالٌ في «ايكونوميست» ان ما يحصل هو العكس تماماً: النّاس تعمل أكثر من أيّ وقت سابق، وجيلنا سيقضي وقتاً أطول في المكاتب من جيل آبائنا، وقد لا يتقاعد أبداً طالما فيه صحّةٌ وحياة. سوق العمل الحديث أصبح مقسّماً، فعلياً، الى عددٍ قليلٍ من الوظائف «المجدية»، التي تضعك في مصاف الطبقة الوسطى، كالمحامين والأطباء والمدراء التنفيذيين، وهؤلاء يعملون ساعاتٍ طويلة جدّاً، تفوق الستين أو الثمانين أسبوعياً، للوصول الى هذه المرتبة والحفاظ على دخلهم وموقعهم ونمط حياتهم. أمّا الباقون، الذين لا يملكون مهارات «ثمينة»، فهم ايضاً مجبرون على العمل لساعات طويلة، وبأجرٍ قليل، في سوق عمل يزداد تنافسية وتقلّ فيه الضمانات (اللطيف في الأمر هو أن الكاتب يعرض هذا الواقع للدّفاع عنه، والقول بأن التماهي مع وظائفنا وتكريس أنفسنا لها ليس أمراً سيئاً، بل قد يكون الشكل الصحيح من «الحياة الجيّدة». بمعنى آخر، «الحياة الجيدة» هي في أن نعطي أكثر وقتنا على هذه الأرض، وكلّ حريّتنا، لشخصٍ غريبٍ مقابل أجرٍ ــــ حتّى نأكل ولا نموت ــــ بل ويجب أنّ نحبّ هذا الواقع وأن نجد فيه المعنى والإلهام).
على مستوىً آخر، وفي ما يعنينا كعرب، كان الاتحاد السوفياتي تجربةً تستحقّ التأمّل على ثلاثة مستويات. أوّلاً، مثّلت روسيا السوفياتيّة نموذجاً لبلدٍ «طرفيّ»، آسيوي زراعي، يحاول أن يقفز على سلّم التنمية والتصنيع، وهو التّحدّي الدائم لدول العالم الثالث في هذا القرن. ثانياً، كان الاتّحاد السوفياتي بلداً يحاول انجاز هذا «التقدّم» وهو في حالة صدامٍ وصراع مع المركز الغربي والقوة المهيمنة عالمياً. ثالثاً، حاولت الدّولة السوفياتية أن تفعل هذه الأمور كلّها على هدي عقيدة ايديولوجية، لا على أساسٍ وطني وتقليدي، بمعنى أنّ هذه التجربة كانت تحاول، باستمرار، أن تبني مفهوماً «مختلفاً» عن الاقتصاد والدولة والمجتمع والفرد، وأن تتخيل وتطرح نموذجاً «بديلاً» عن النمط السائد المكرّس.

البدايات والنهايات

المشكلة هي أنّه من الصّعب نقاش تجربةٍ فشلت، وإن كانت مديدة ومرّت بمراحل وتقلّبات، الّا من زاوية النهاية التي أحاقت بها ــــ أو انطلاقاً منها (كأنّ كلّ ما كان يجري في الاتّحاد السوفياتي منذ تأسيسه لم يكن الّا تحضيراً وتمهيداً للحظة الهزيمة، وهذه سردية اشكالية تاريخياً). الهزيمة والسّقوط، كما حاججنا في مقالٍ سابق، يعطي كلّ مراقبٍ الفرصة لإسقاط أفكاره هو على الحالة السوفياتية، واستخدام السقوط التاريخي كتوكيدٍ على نظريته هو. لهذا السّبب، من السّهل عليك أن تنظّر عن الاتّحاد السوفياتي وأسباب سقوطه من غير أن تعرف شيئاً كثيراً عن تاريخ روسيا أو عن التجربة ذاتها، فتكون فعلياً تتكلّم عن نفسك، وليس عن هذا الماضي.
لهذا السّبب، فإنّ التفسيرات التي تحيط بالهزيمة والسّقوط، والخطاب الذي يتولّد عنها، قد يكون أخطر من الهزيمة نفسها. حرب 1967 كانت هزيمةً كبرى ليس بالمقاييس العسكرية (فهذه مفاعيلها تزول بعد فترة قصيرة)، ولكن بسبب الخطاب الذي أحاط بالهزيمة وفسّرها، واستخدم أحداثها ليفرض استنتاجات من نمط أنّ الصراع ضدّ اسرائيل مستحيل، وأنّنا «متخلفون» لا رجاء منا في مواجهة شعوبٍ «متفوّقة»، وأنّ اميركا ربّنا الأعلى ولا مجال لتحدّي ما تريد. الحرب حصلت منذ نصف قرن ولكن هذه الثقافة السياسية لا تزال مستمرّة الى اليوم. من هذا المنطلق، فإن الكلام عن التجربة السوفياتية ليس دفاعاً عنها، بل دفاعٌ عن إمكانية عالمٍ مختلف، وقد راجت بعد سقوط الشيوعيّة حجّة أنّ أي محاولةٍ للتشكيك بالنظام الحالي الذي أفرزه تاريخ الهيمنة، أو في الرأسمالية أو الليبرالية أو الواقع الأسود الذي نراه حولنا، هو «مثاليّة» وطوباويّة، ليست فاشلة حكماً فحسب (كما أثبتت التجربة السوفياتية)، بل هي «خطيرة» ايضاً.
سنستخدم مثالاً واحداً للتدليل على صعوبة التأريخ للاتحاد السوفياتي، رغم مرور الزمن، وكمية الشحن الايديولوجي التي رافقت أي دراسة في الغرب للنظام «البديل». حين تدرس الماركسية في مساقات غربيّة، قد تستغرب للوهلة الأولى أنّ الأساتذة (وهم غالباً معادون للشيوعية) لا مشكلة لديهم في تدريس وجهة نظر ليون تروتسكي، وهو بلشفيّ جذريّ ينادي بالثورة المستمرّة. بل وتقدَّم هذه المواد غالباً في إطار من التعاطفٍ والموافقة، ويشجّع التلاميذ على قراءة التاريخ السوفياتي عبر كتابات تروتسكي (على طريقة «شهد شاهدٌ من أهله»). لا تفهم سرّ هذا التركيز على تروتسكي بالذات ــــ فيما أغلب المنظّرين البلشفيين لا نصوص لهم في هذه المساقات ــــ حتى تقرأ تحليل المؤرّخ ستيفن كوتكين، مثلاً، لدراسة الاتحاد السوفياتي في الغرب.
يقول كوتكين (هو ليبرالي معادٍ للشيوعية ولستالين) انّ الدراسات السوفياتية في اميركا وقعت في مأزق ابتداء من أواخر الخمسينيات. حتى ذلك الوقت، كان الأكاديميون الأميركيون يدرسون الغريم السوفياتي، ببساطة، عبر نظرية «التوتاليتارية»؛ أي أن الناس يطيعون الدولة لا لأنها اكتسبت شرعيّة، بل لأنها توتاليتارية، تتحكّم بكلّ جوانب حياة الانسان، وتهدده بالسجن والموت لدى أي تمرّد او اعتراض، فالنظام يسير، ببساطة، لأن الناس تخاف منه وتعتبر أن البديل عن الطاعة هو الموت. المشكلة هي أنّه، مع موت ستالين وفي ظلّ خروتشيف، لم تعد هناك اعدامات سياسيّة وغولاغ ومعتقلات للمخالفين، ولم يعد الناس يخافون ــــ في حياتهم اليومية ــــ من الشرطة السرية أو من الكلام بحريّة في السياسة، فكيف نفسّر استمرار هذا النّظام وشرعيته في غياب القمع؟ الإنقاذ جاء عبر المنظار التروتسكي، بدءاً من كتابات أكاديمية استرالية اسمها شيلا فيتزباتريك واميركيّ هو موشي ليفين، تجمّع حولهما عددٌ كبير من الدارسين ليعتمدوا الفكرة التروتسكية حول النظام الستاليني وسرديّة «خيانة الثورة»: كانت هناك ثورة «مثالية» وتقدميّة قادها البلاشفة عام 1917، ثمّ سرقها ستالين وحوّلها الى نظامٍ بيروقراطيّ سلطوي يخالف مبادئها، والنخبة البيروقراطية الحاكمة اليوم لا تختلف كثيراً، في علاقتها بالشعب، عن النظام القيصري وارستقراطيته، بل هي كانت (بالنسبة الى ليفين) محض استبدالٍ للطبقة القيصرية وعلاقة الأسياد بالأقنان. يشرح كوتكين أنّ هذا المنظار الذي انتشر في الأكاديميا الغربية وتجذّر، وإن كان مناسباً سياسياً، فهو مجافٍ للحقيقة بالمعنى التأريخي. قل ما شئت عن ستالين، يفسّر كوتكين، باستثناء القول انّه تراجع عن مبادىء ثورة 1917. لينين، في الحقيقة، كان من أخذ خطوةً الى الوراء، فشعارات الثورة الأساسية، التي سار الناس خلفها وثاروا لأجلها، كانت التأميم، والغاء الملكية الفردية، وضمان البطالة والحقّ في العمل، وهذه كلّها أمورٌ أجّلها لينين وتجنّب تفعيلها، ثمّ طبقها جوزف ستالين بشكلٍ جذريّ، وكان ذلك من أهم أسباب شرعية نظامه.

كوكب ماركس

بالنسبة الى جيلنا، الذي لم يعاصر التجربة السوفياتية ولا يمكنه أن يعرف عنها اليوم بمعزلٍ عن غلالة الايديولوجيا، فإنّ أعمالاً مثل كتاب فرانسيس سبفورد، «الوفرة الحمراء»، تعطينا منظاراً مختلفاً عن الحياة داخل «كوكب ماركس». يروي سبفورد مرحلة الخمسينيات وأوائل الستينيات في الاتحاد السوفياتي في خليطٍ بين التأريخ والرواية؛ مرحلة صعود خروتشيف ونهاية الحرب العالمية واندثار ذكرياتها الصعبة، ونشوء نخبةٍ جديدة تريد أن تحقق الرفاه وأن تنافس على المستوى العالمي. يبدأ سبفورد كتابه بزيارة خروتشيف الى اميركا عام 1959، ويروي الأحداث من خلال عيون القائد السوفياتي، وهو تقصّد أن يهبط في مطار واشنطن على متن أحدث وأضخم طائرة «توبوليف» عابرة للمحيطات، ويراقب كلّ ما حوله في اميركا بإعجاب، ولكن من غير حسد. خروتشيف يشعر بالثّقة، بلاده تنمو وهي قادرة على المنافسة اليوم، فلا ضير من زيارة أميركا. «دع الكلب يرى الأرنب (الذي يلاحقه)» ظلّ خروتشيف يردّد، وهو يشاهد ناطحات السحاب في نيويورك، أو بيوت الطبقة الوسطى في الضواحي، وحياة الاستهلاك والأضواء في عقر الراسمالية. «اللحاق والتجاوز» كان الشّعار الأكثر تداولاً في تلك المرحلة.
يصف سبفورد، في كلّ فصل، جانباً من تلك الحياة السوفياتية، من الأكاديميين الذين كانوا يبنون مدناً علمية كاملة في صقيع سيبيريا، الى مدراء المصانع والشركات، كوادر البيروقراطية الروسيّة، الى مهرّبٍ في موسكو، وعلماء واقتصاديين يطمحون الى خلق نماذج جديدة لإدارة الاقتصاد، باستخدام الكمبيوتر والمحاكاة، ويتصارعون مع القيادة السياسية. سبفورد ايضاً معادٍ للشيوعية ويروي سيرة الاتحاد السوفياتي من زاوية سقوطه؛ فالكتاب لا يحتفي بـ»المرحلة الذهبية» للاتحاد السوفياتي بقدر ما يقدّم في كلّ قصة من قصصه نذيراً خفيّاً عن لحظة السقوط الآتية. أحد الفصول الأخيرة يوصّف عالم الكمبيوتر الروسي الشهير، سيرغي ليبيديف، وقد جاء الى مكتب «الرفيق الوزير كوسيغين» عام 1970 وهو ينازع الموت بسبب سرطان الرئة. قرّرت القيادة يومها أن يكتفي العلماء السوفيات بنسخ كمبيوتر «اي بي ام 360» الأميركي، والتوقّف عن صناعة حواسيب محلية بتكنولوجيا سوفياتية، وهو كان قراراً مفصلياً حدّد مسار صناعة الالكترونيات في الاتحاد السوفياتي لعقودٍ قادمة، ووضع الاتحاد السوفياتي ــــ في رأي الكثيرين ــــ في حالة تخلّف تقني مستدامة مقارنة بالغرب. ارتدى ليبيديف، للمرّة الأخيرة، ثيابه الرسمية وأوسمته الكثيرة، وتحامل على سعاله وألمه في محاولة يائسة لمقابلة كوسيغين وثنيه عن قراره بتدمير صناعة الكمبيوتر السوفياتية، ولم ينَل موعداً (يتبع).