كتابي الاول؟ حسناً، إنه مثل الحمل خارج الزواج، لذيذ وملعون، كان أشبه بقبلة مختطفة على السلّم، وفي العتمة، هو كذلك فعلاً. كانت رواية، أو ما يشبه الرواية، لا، كانت إرهاصات مستعجلة لرواية لم تُكتب كما يجب أن تُكتب، لأن الرواية تكتبها الذاكرة وكذلك الألم، وفي عمر مبكر هو الثامنة عشرة، لم أكن لأتذكر، كنت اخترع ذاكرة مشتهاة، عقوق مبكّر، شيطنة بلاغية لولد ينام دون أن يخلع حذاءه، أو معطفه.
كانت الصحافة، مبكّرة كذلك، ولم تكن لغتها لتتجاوز ما يكتبه سكرتير تحرير يعبث بشاربيه، ومدير تحرير يصبغ فروة رأسه، وكان الاحتفال على الدوام، بالمسدسات الخالية من الرصاص، كان هذا حال صحيفة «الثورة»، مكاتب معدنية مصنوعة للموتى، أو ربما لبشر يعاركون الخيال لكسر عنقه. الخيال ممنوع، والواقعية مهملة في الأدراج، الثرثرة وحدها مسموحة، وكان هذا سبباً يكفيك للألم.
في المحصلة لديك الألم، ولم تكن لتمتلك من الذاكرة ما يتسع لإنجاز رواية، ومع ذلك كتبت الرواية (وأكرّر ما يشبه الرواية)، ومع أنني نسيتها اليوم، فثمة ما لا أنساه منها، كانت تحمل حكمة مبكّرة.. خذ مثلاً: «الحياة لا تفتح ذراعيها لمهزوم». كان هذا واحداً من استخلاصات تلك التي لا تسمّى، وكانت تحكي عن الذاكرة، ذاكرة فرد يرى بأن ما يبلل أعالي الشجر ليس الندى، بل الذكرى، وتصوّر معي كم كان ذاك الكاتب الشقي بحاجة للذاكرة، وربما ولهذا السبب، وبحثاً عن الذاكرة، كانت سلسلة من الأسئلة التي تحمل مجازفات لا تحدّ. مجازفات تمتد من منظمة التحرير الفلسطينية بتنويعاتها، إلى جبهة البوليساريو ورمالها، وهناك كان الكتاب الجدي الأول: «بوليساريو.. الطريق إلى المغرب العربي الكبير»، وكان كتاباً توثيقياً بكل ما للكلمة من أسباب النطق بها، ولكنه لم يكن انتصاراً لقضية. كان مجرد فسحة في توطيد ذاكرة ما، شاءت الصدفة، أو شاءت الخطوة، أن تكون في تلك الصحراء الهائلة التي تلتهم رمالاً لا نهائية، وكان هذا الكتاب هو الكتاب الأول عملياً... هو الكتاب الذي كُتِب لا تحت السلم، بل في غرفة النوم، حيث السرير والزواج الشرعي، من دون أن يفتقد لحرارة القُبَلْ.

كنت أحاور ممدوح عدوان،
فلفتني فيه كلام قاله لي: «أنا لست موهوباً.. أنا شغيّل»


كنا مجموعة من الموهوبين ومن عديمي الموهبة، ولا أعرف أين موقعي بينهم، غير أن ما كنت متاكداً منه، أنني سأصنع موهبة، لم لا؟ ذات يوم، وكنت أحاور ممدوح عدوان، لفتني فيه كلام قاله لي: «أنا لست موهوباً.. أنا شغيّل». هذه العبارة، أسّست بي شيئاً ما، أدركه الآن، بعد سنوات طويلة على غياب الرجل، ذلك أنني ذبيحة فوات الأوان على الدوام. نعم، على الدوام. كنت لا آتي إلّا بعد فوات الأوان، وها أنذا متأخراً أتأبط ست روايات، والسابعة في طريقها إلى النشر، ولكن «بعد فوات الأوان» أيضاً.
نعم، هو الأمر كذلك، فقد بات لديّ ذاكرة طافحة بالاعوجاجات والمآسي. خزّان لا يكفيه مئة كتاب وكتاب، وألف ليلة وليلة، وفي قلبي وجع يقتل بغلاً، وكلها أسباب كافية لأكون روائياً، ولكن متى؟ حين شحبت الرغبة، أعجب من ذلك الشبه مع بطل روايتي الذي أكتب عنه الآن، حتى تخال أنها رواية سيرة ذاتية، مع أنها ليست كذلك على الإطلاق، هي حكاية رجل يصل متأخراً إلى مواعيده، لا يأتي إلّا متأخراً، كمن يأتي من الفراغ إلى الفراغ، فها أنت تكتب اليوم في العقود الأخيرة من التاريخ، حيث بات العالم مستودعاً للقبيلة لا للّغة، بل مستودعاً للسواطير لا للأغاني، حتى بتّ تفضّل لو أنك (لم) تكتب أبدأ و(لن) تكتب أبداً، أقله والعالم يجتر متاهته الفظّة، وأنت رجل بذاكرة ممتلئة، وقلب يعرف معنى الألم.
ليت الكتابة لم تكن، ولا الذاكرة أيضاً. ها أنذا أتذكر.
أتعرف ما معنى أن أتذكر؟ يعني أنني أضع النقطة الأخيرة في آخر سطر مني.
الآن، أنا كاتب محترف، أكتب رواية «لعوباً وشجاعة، وقذرة وشريفة، ومليئة بثياب الفضيحة الممتعة»، على حد وصف عادل محمود لما أكتب. أكابد، مكابدة المحترفين... استطلع الناس والمكان، واكتب الجملة الأولى بثقة، ولا أمزّق أيّاً من أوراقي، مع أن النصيحة تقول: «اكتب بقلم رصاص ليتسنى لك أن تمحو». ولكن لم يكن هذا حال الرواية الأولى. في الرواية الأولى، التي أعتبرها رواية بلا نقص، وأعني «آخر أيام الرقص»، كنت شخصاً محتضراً، أوقد ذاكرة المكان، الناس، وترهقني اللغة التي هي لي... كان عليّ ألا أستعير طغيان غابرييل غارسيا ماركيز، وأن أنسى أنني قرأت تشيخوف في عمر مبكّر، وكذلك تولستوي وهمنغواي ودوستيوفسكي، فالحريّة أن تتحرر من ذاكرة الآخر لتوطدّ حريتك أنت. أنت فقط. لتكون أنت من يكتب، لا ذاكرة من قرأت، وهذه ليست مسألة سهلة ولا رخيصة، وكنت أحاور نفسي، وأهزّ رأسي موافقاً.
ولكن كيف تكون أنت... أنت؟
في «آخر أيام الرقص»، كنت أعلم أنني لا أكتب في القضايا الكبرى، كتلك التي تمجّد ثورات أو تفكّك قادة تاريخيين، أو تلعن أنظمة حكم، وهي الروايات التي تستدرج تصفيق الجمهور، وتحرّض صنّاع النجوم على ترتيبك في الصفوف الأولى من مقاعد الكلام.. كنت أعلم ذلك، وكنت أعلم أن الصَدَفة ليست بحجم سمك القرش ولا بقدرته الفتّاكة، ولكنها الصَدّفة التي أبحث عنها في هذا البحر القاتل الذي يسمونه الرواية، كان قراراً صعباً، فالكاتب، مطلق كاتب يرغب في حشد من البشر الذين يكافئونه بالصراخ:
برافو.
ولم أكن أسعى إلى «برافو» هذه، وحدث ما توقعت. لم أسمع «برافو» على الرواية التي أعتبرها (أنا)، بسؤالي الجوهري، سؤال الوقت، الزمن، صراع الرغبة مع البيولوجيا والخديعة مع الشغف.
كتبتها خلال عشرين يوماً، ولم أحاول حتى إعادة قراءتها. كنت راغباً بأن تكون رواية طاهرة من الصناعة، من تقنية الراوي، وأرسلتها إلى الناشر كما ولدت، بدم مخاضها، وحبل سرّتها، ولم أندم. ولكن لو تسنّى لي اليوم إعادة كتابتها، لكنت أكثر حرية في منحها شرف أن لا تدير رأسها للقارئ أو الناقد أو الناشر، فالحريّة هي أن تتحرر من الآخر. نعم الآخر، عدو الحريّة، كل الآخر عدوّ الحريّة. عراؤك هو حريتك، معطفك يستعبدك حتى لو منحك دفئه. ذات يوم، وكنت مسحوراً بمحمود درويش (ولما أزل)، قلت له: (لا من موقع الندّ ولا الصديق، بل من موقع الصحافي):
لو كنت مكانك لما قرأت قصائدي للجمهور في حفل عام. لو كنت مكانك لبحثت عن جمهور يتلصص على قصيدتي، بدلاً من أن تذهب قصيدتي إليه.
أظن أن روايتي الأولى تلك، لم تذوِ ولم تشحب داخلي. أرغب اليوم في إعادة كتابتها، غير أنني رجل لا يقبل أن يتابع خطواته فوق رمال سار عليها يوماً.
كل ذلك لأقنع نفسي بأنني سأخطو أيضاً.
«آخر أيّام الرقص» كادت أن تتحول من رواية إلى كارثة أو فجيعة، فمعها انتقلت من رجل يفتح ثقباً صغيراً في الجدار، ليرى ما في داخل المكان، إلى رجل داخل المكان. أثناء كتابتها لازمني الخوف من الموت، ومن الخيانات الصغرى، وكنت أظن أن موتي سيكون مع آخر مشهد في الرواية حيث الحرائق تجتاح المكان، ولم يكن بوسعي أن أصالح أبطالي، فلحظة المصالحة تعني إماتتك كمؤلف، والإبقاء على ذلك الصراع تعني إماتتهم. وما أن احترق المرسم بمن فيه، حتى انتهت الرواية. ومع نهايتها، تعزّز إحساسي بالوحدة والعزلة، مع الكتابة. كنت أسكن بينهم، بل كانوا من سكّاني، وما أن انهيت كتابة الرواية حتى أخلوا سكنهم ورحلوا عني. كان عليّ أن أبحث عن سكّان جدد، فكانت الرواية اللاحقة، ومع كل رواية ثمة من يخليني من السكّان، لأعود مجدّداً للبحث عن سكّان جدد.
يظهر أن الكتابة الروائية، هي بحث عن سكّان لبيت مهجور. إذا لم أتابع الكتابة الروائية سأكون ذلك البيت، باب ضخم، جدران مغبرة، ورتاج صدئ يغلق على كل ما فيه من صمت.
تلك اللعنة، كتابة الرواية... هي خلاص لواحد مثلي.