ملك الحواس. هذا هو الراديو. ملك الحواس الإنسانية. فكرة عظيمة، لم يهزمها شيء. لا المسرح ولا السينما ولا الفيديو. سفينة الهواء. جسد لا يتحطم، حتى ولو تحطم الجسد. ذلك أن أحداً، لا يستطيع تحطيم الموجات. دوائر. موجات على هيئة دوائر. نصف قطر وراء نصف قطر. هكذا تردد أن أصل كلمة راديو من راديوس. كلمة يونانية، معناها نصف القطر.
وصل هذا الإختراع العظيم إلى أقصى درجات الحرية والخلود. قطرة ماء تتسع. تكثيف نظام الإرسال. نور عقل وشعلة قلب وأصوات، تتعانق جزيئاتها وتتعارك في نوع من التجريد والتجسيد. بذرةٌ تضحي سهلاً. قوة طموحة، لا تتبعثر ولا تتجمد ولا تموت. حلمٌ . وحين تحقق الحلم، استيقظ الناس على الصوت الجديد، في مساحات نادرة. بعض البيوت الميسورة وبعض المقاهي. تحلق الناس خلق الآلة المعلقة على رف نُجُّر خصيصاً، لوقوف الراديو، كإله محارب، خادم ومتعاون مع جمهور، لم يلبث أن أدمن عليه، بعد أن أدمن على جلسات الحكواتي. حكواتي جديد، جدير. مات الحكواتي القديم بصالح الحكواتي الجديد. من البشري الحاكي إلى الجهاز الحاكي. ثورة أولى. ثم جاءت ثورة الترانزستور. رفاهية جديدة وعظمة جديدة. هكذا أطلق الراديو صيحاته بالأيدي ، بعد أن أطلقها بالبيوت والمقاهي.
الإجهاد هنا. هنا، الفرح. هنا، التوحش والإجهاد والجوع واللهفة والقسوة والحنان والنبل والتسامح والخطاب والمعلومة. الأهم : تحرير الخيال . كل اللحظات الحاسمة في حياة الإنسان . خبزٌ تتقاسمه الأسر. نار ، تنفتح على أكثر الهاويات رعباً، بين الخير والشر. جهاز يذكر العقل بالعقل، حين لا يتعالى على الأميين ، كما تفعل الصحيفة، كمثال. بالراديو ، يرسم الصوت الوجه، يرسم القناع. الإذاعة الأولى ، بالعالم العربي، إذاعة مصر، بالعام ١٩٣٤. أنشئت الإذاعة اللبنانية في خمسينيات القرن الماضي. خاطر الأول بكل شيء حين اسقط مئات الطائرات الإسرائيلية بحرب العام ١٩٦٧، وهي بالفضاء تغير على منصات الطائرات المصرية وقواعد الصورايخ والتجمعات العسكرية والسكانية. حين خسر أبطال الإنقلاب القومي السوري ، إذ قصدوا مركز الإذاعة اللبنانية القديمة، لكي يقرأوا بيان الإنقلاب ، ليفاجأوا بانتقال الإذاعة إلى عمارتها الجديدة في منطقة الصنائع. تم اعتقال أبطال الإنقلاب ، بدل أن يتبادلوا الأنخاب احتفالاً بوضع اليد على السلطة. لا تطأ قوى السلطة ، إلا إذا وطأت الإذاعة بقوتها ولغتها. الإذاعة مدينة. الإذاعات مدن. الإذاعة بلاط. بالإذاعة اللبنانية اجتمع الأخوان رحباني وفيروز. هناك ، بدأت رحلتهم الكبرى. كما بدأت رحلات الأخرين ، من زكي ناصيف إلى توفيق الباشا وَعَبَد الغني شعبان وتوفيق سكر. مر كل كتاب الأغنية في استديوهات الإذاعة. لم تتقاعس عن تكوين صوت أو جسد أو حضور. وإذ غادر العرب إذاعة الشرق الأدنى بفلسطين ، خرجوا من المادة إلى الروح مكبدين الإنكليز هزيمة ، بإعادتهم إلى حساباتهم المتواضعة. احتج العرب على العدوان الثلاثي بهجرة الإذاعة. انتصروا على العدوان الغاشم بهجرة واسعة من فلسطين إلى لبنان.
الإذاعة ساحة معركة الغد. العاملون فيها ، جنود ، يصعدون على درجات لا تتحطم، لأنها درجات من هواء. الهواء هواء الإذاعة، هواء التلفزيون هواء مثخن بالتعرض لخطر التهافت . الإذاعة أكثر رسوخاً ، الإذاعة أكثر ثقة، بمئات آلاف السيارات ، المهزومة بلا انقطاع على طرقات لبنان. الريتينغ هو الأعلى على صعيد الإذاعات . كثرت الإذاعات من الحاجة إلى الإذاعات . إذاعة لبنان ، ثم صوت لبنان وصوت الشعب وصوت لبنان الحر وصوت لبنان العربي وإذاعة المقاصد. بطل حرب ٦٧ ، إذاعي إسمه أحمد سعيد. الإذاعة واحدة من أبطال الحرب الأهلية في لبنان. تراشق بلا شفقة. بعدها ، عبور فوق الدماء إلى صورة الجمهورية الجديدة. أجهزة الإرسال ، بساحات المعارك، بالطائرات ، بكل شيء عابر، أجهزة الإرسال إذاعات . تلعب الإذاعات أدوارها بالتنمية والإقتصاد والتمكين ، تمكين المرأة، والثقافة والفن وعلوم الإجتماع والمكتبة وإلى آخره. الإذاعة، ولادة الأشياء، من اللاشيء. ولادة الأشياء من الصوت . الصوت سيد الآلآت. الإذاعة مجرة على الأرض. كون ضد الفوضى. الإذاعة عالم بالعالم. الإذاعة عالم جديد. لا عجب من الإحتفال بها ، بيوم عالمي. يوم الإذاعة العالمي، أو يوم الإذاعة بالعالم. القصد واحد بالحالين.