رحل الفنّان زهراب كيشيشيان بصمت واضعاً اللمسة الأخيرة في اللوحة. غاب زهراب، فانسحبت بهجة اللون بهدوء، كما تغيب الشمس. لكنه ترك دفء أشعته إلى الأبد في قلب تاريخ الفن التشكيلي اللبناني والأرمني والعربي، عبر لوحات اتخذت مكانها الذي تستحق: في «متحف سان لازارو» في إيطاليا، في «المتحف الوطني السوري»، في القصر الرئاسي» في قبرص، في الولايات المتحدة، في البرازيل، وفرنسا.. ومختلف كنائس الأرمن في العالم، والصروح العلمية والدينية في لبنان. وهكذا سيبقى زهراب نوراً من لون وفرحاً من لوحات.منذ الخامسة من عمره، بدأ بالرسم، فأقام معرضه الأول في حلب بعدما أتم الـ 12 من عمره، وتفتّح وعيه على ألم المجزرة الأرمنية. «أرمينيا تسري في عروقنا كما يسري الفن في عروقي!» قالها مراراً وقد توّجها في معرضه الأخير الذي أقيم في أيار (مايو) 2016 في «غاليري إكزود» (مار مخايل) تحت عنوان turning turning turning.

رغم كل هذا الألم، إلا أنّه ظلّ يشع أملاً. «أحبّ الرسم والتلوين! هناك ألوان، هناك خطوط. هناك روح! وإن غابت الروح، غاب كل شيء» على حد تعبيره في إحدى مقابلاته الصحافية. روح بثها في كل ما رسم، وغمّسها بالضوء مع ريشته، ثم تركها أثراً لن يموت على لوحاته الممتلئة بالحب، والأمل، والموسيقى والحياة من دون أن ينسى التأريخ، ولو كان تأريخ لحظة.
شكّل بالمائيات، رسم بالقلم، ألّف بالزيتيات. لم يترك مادة في عالم التلوين، إلا واستخدمها ليمطر الدنيا بألوانه. لم يأخذ زاوية أحادية في الهوايات البصرية، بل سال كالساقية بين كل المدارس، حاملاً معه من كلها بعض الماء. مرّ بالمدرسة التصويرية ثم الرمزية ثم التجريدية ثم الغنائية وغيرها ولم يعرف الاستقرار. ظل الجدول الزهرابي سارياً حتى الأمس.

مرّ بالمدرسة
التصويرية ثم الرمزية فالتجريدية والغنائية

وللمناسبة، اسم زهراب يعني «جدول الآلهة» وفق ما كان يشرح للسائلين.
وهذا الجدول الساري خلق لدى زهراب «باليت» لونية غنية حدّ الفيض، وصادقة حد الادهاش! إمكانيات تناغم اللون التي يطرحها زهراب في كل لوحة على حدة، لا تدل إلا على عالم ضوء وذواقة قيم لونية. قد لا يتفق معه المرء في تأليفاته، وربما لن يتمكن البعض من اللحاق بفيض أحاسيسه أو ينغمس في حالاته، لكنّ المؤكد أنك ستسحر مع بداية دخولك عالم لوحاته الضخم... كوكب «زهراب» اللوني. ومن المؤكد أيضاً أنّ من يدخل عالم زهراب ولو بحشرية، لن يخرج منه كما دخله في المرة الأولى. والمرور العابر بلوحات زهراب خطأ، إن لم يكن إجحافاً. ومن أعطاها حقها كسب، وسار مع ترنيمة جدوله الفني.
في الزيت، في الغواش، في المائيات، في الحبر، في الوجوه التي يرسمها في الأزهار في الاشكال، في الراقصات، في الامهات، في الرفيقات... هنا زهراب يذكرك برونوار، وهناك يذكرك بأوديلون رودون، وحيناً ببول كلي، وأحياناً بفان غوغ! لكنه كان يحبّ تيسيان ورافاييل و بيكاسو كما أفصح في مقابلاته العديدة. رسم الناس، رسم الطبيعة الصامتة، والمناظر الطبيعة، والحب، والأمومة، والآلة، والأبطال، والمسيح، رسم الضوء.. ورسم الفن!
قل لنا يا زهراب كيف المرور بكل هذه المدارس والمحافظة على هذا النقاء؟ كيف تصل إلى البحر بلا تلوث؟ اركض بسلام الشجعان، اركض بسلام المغيب، اركض بهدوء اللمسة الأخيرة للوحة.

* يصلى لراحة نفسه عند الثانية من بعد ظهر غد الخميس في كنيسة بطريركية الأرمن الارثوذكس في منطقة انطلياس، على أن يوارى الثرى في مدفن العائلة في برج حمود.
تقبل التعازي بعد الدفن في صالون مطرانية الارمن الأرثوذكس (برج حمود) لغاية السابعة مساء، ويومي الجمعة والسبت ابتداءً من الحادية عشرة قبل الظهر، لغاية السابعة مساءً.

www.zohrabk.com