دمشق | قرب حديقة الجاحظ وسط العاصمة السورية، تقف دورية للشرطة العسكرية، يراها الشبان في المنطقة كشبح يلاحق أحلامهم ومستقبلهم. المكالمات الهاتفية التي يتبادلها الشبان قبل مشاويرهم الليلية، حول أماكن وقوف عناصر الدورية، كفيلة بتغيير وجهاتهم وإلغاء مشاريعهم.
وتأتي الحملة الجديدة لـ«السَّوق» إلى الخدمة الإلزامية والاحتياطية هذه المرة، بالتزامن مع انتشار شائعات تقول بأنه تجري دراسة «بدل داخلي» لتلك الخدمة.
ومنذ سنوات تمثّل هذه الشائعات رغبة العديد من الشباب السوريين، ممن يعتبرون الالتحاق بالجندية كابوساً لا مجال للخلاص منه. فالبدل الداخلي يضمن أن «يدفع» من لا يرغب في القتال، أو في «خدمة الوطن»، مبلغاً تحدده الحكومة، لقاء بقائه في مكان عمله الحالي أو في «حضن والديه». غير أن الأمر ليس بمثل هذه السهولة. فقضية «البدل الداخلي» أكثر تعقيداً من أن يطرحها أحد أعضاء البرلمان السوري، أو تجار غرفة صناعة وتجارة دمشق، كما يشاع، في حين أن شائعة رفضه من القيادة السورية، كمقترح يناسب عدداً غير قليل من السوريين، أمرٌ قابل للتوقع في ضوء الواقع الحالي.

«السَّوق إلى الشهادة!»

لا حل في الأفق، بالنسبة إلى الكثير من الشباب الذين يعلو منسوب توترهم مع كل حملة جديدة لـ«السَّوق». ولن يهدّئ من توترهم وهواجسهم تهافت وسائل الإعلام المحلية على استقبال المسؤولين العسكريين الإداريين، للإجابة عن تساؤلات لا مجال لتخفيف حدّتها. يقول سامر (شاب في نهاية العشرينات)، موصّفاً كلمة «السَّوق»: «يلزمنا أعمار كي نغيّر بعض المصطلحات التي تم ترسيخها في ذواتنا، بناءً على قوانين أو تشريعات، كالنكاح والسَّوق، وغيرهما. والبحث في معانيها هو جوهر مشكلاتنا الحياتية». ويتابع قوله: «هكذا يساق الشبان إلى الجندية، والجنود إلى الشهادة. ويتم توصيف الأمر من وسائل إعلام الخارج بسَوق الشباب إلى الموت كما تساق الشاة إلى الذبح». ويذهب الشاب إلى أبعد من معاني الكلمة المستفزة بالنسبة إليه وإلى غيره من شبان اعتمدوا الثقافة منهجاً، بعيداً عن السلاح، ويضيف قائلاً: «لن ألتحق بالخدمة الإلزامية، بعد أن استنفدت تأجيلي. لديّ شقيق وحيد يخدم العلم على جبهة دير الزور. وأظن أن هذه فاتورة عائلية ندفعها جميعاً، وهي كافية للوطن».
نقمة الشاب واضحة، من خلال محاولاته العودة من عمله «تهريباً» من الحواجز العسكرية المنتشرة، التي «تفيّش» البطاقات الشخصية، من أجل البحث عن المطلوبين إلى الخدمة الإلزامية والاحتياطية، إلى جانب المطلوبين أمنياً. وحول شائعات البدل الداخلي يقول: «بالتأكيد أنا مع مثل هذا الحل. سأؤمّن المال بأي طريقة، كي أبقى إلى جانب عائلتي التي تحتاج إلى وجودي، في ظل غياب أخي». كلام سامر يكشف عن مشكلة قاسية يواجهها السوريون حكومة وشعباً، وهي تكمن في إمكانية استصدار قرار «مستحيل»، يكفل للمتزوج الشاب ما يعيل أسرته في حال التحاقه بخدمة العلم. ولعلّ شائعة البدل الداخلي لم تأتِ من فراغ، إذ يظن البعض أنها محاولة تحسّس لنبض الشارع وردّ فعله على قرار من هذا النوع.

المقابل مقابل الحياة!

انقسامات السوريين واضحة على طرح القرار المفترض، إذ تعالت أصوات البعض، ولا سيما ممن أمضوا السنوات الست الماضية على الجبهات وعائلاتهم، حول طبقية قرارات كهذه تجعل الواجب أمراً مفروضاً على الفقراء فقط، فيما يعفى الأغنياء منه. ويقول محمود، وهو جندي نال تسريحه بعد 5 سنوات بعد استشهاد شقيقه، بالقول: «من لن يتمكن من دفع هذا البدل الداخلي سوف (يُساق) إلى خدمة الوطن شاء أو أبى.

يرفض البعض «البدل»
باعتباره يلقي عبء الخدمة
على الفقراء
حتى في الواجبات المقدسة ينبغي لرأس المال أن يتكلم! سمّموا مقدساتنا ووطننا بترسيخ فقرنا»، مضيفاً: «نحن ندفع ما هو أغلى من كل الأثمان، مهما حاولوا تثمينه بالمال».
ويرفض الشاب الثلاثيني كل حديث عن بدل داخلي، حتى ولو تم تعويض من يخدم العلم برواتب لائقة، إذ إن الأمر بنظره «ليس إلا إخلالاً بواجبات الأغنياء وإذلالاً للفقراء، ولا يعدو كونه تحويل الإنسان إلى سلعة مادية، وإفراغه من مضمونه الروحي».
ومن زاوية أُخرى، يمكن للكفاءات تلقف مشروع «البدل الداخلي»، على الرغم من الحاجة إلى المزيد من الدراسات الدقيقة حياله، لسدّ جميع الثغر التي يمكن أن يعتبرها المعترضون على الفكرة سلبيات تدينها. ويرى الصحافي وسام الجردي ــ الذي يواجه مشكلة الخدمة الإلزامية ــ أن البدل الداخلي يكفل الحفاظ على الكفاءات الشابة ويمنع هجرة العقول، بعد تحول الشعب السوري من فتيّ إلى كهل خلال سنوات الحرب. ويقول إن «نظم قانون للبدل الداخلي يمكن أن يدرّ مبالغ طائلة على الدولة، تساعد جداً في ظل العجز المالي الواضح الذي تعاني منه الخزينة العامة».
غير أنه لفت إلى ضرورة تكامل المشروع مع فكرة تحفيز التطوع بدل الإلزامية، بما يكفل راتباً جيداً، وهو ما سيدفع الشباب إلى الالتحاق، بوصف القتال واجباً يتطلب مقومات الصمود، ولعلّ المال من أول هذه المقومات.
ويطرح الجردي مسألة «أوضاع الشبان في مناطق الصراع، الذين يعتبرون بمعظمهم فارين من الخدمة الإلزامية، وهذا عبء، فيما لو وُجد قانون يضبطه، سيخفف الكثير من حدة الصراع الدائر».

البدل الداخلي ما زال خارج البرلمان

وليس خافياً أن فكرة «البدل الداخلي» غزت أحاديث السوريين منذ ما قبل الحرب، على اعتبار الخدمة الإلزامية كانت ولا تزال عائقاً في وجه مستقبل الشبان السوريين. وما شرّع الحديث عنها، تحديث قانون «البدل الخارجي» الذي يكفل للمغتربين دفع مبلغ غير زهيد، باعتبارهم أيضاً جنوداً في بلدان الاغتراب، يعيلون أسرهم داخل البلاد، وهو ما يمنحهم الإعفاء من الخدمة الإلزامية والاحتياطية بعد تحقيقهم شرط إتمام 5 سنوات في العمل خارج البلاد.
غير أن المثبت أن مشروع «البدل الداخلي» المثار أخيراً، لم يطرح في مجلس الشعب أبداً، وفق ما ذكر النائب السوري سمير حجار، في حديثه إلى «الأخبار». ويشرح بالقول: «لا شك في أن تطبيق مشروع كهذا سيجعل الجيش مقتصراً على الطبقة الفقيرة والوسطى، وسيفقد الفئة الحاصلة على شهادات عالية. كذلك فإن تعداد عناصر الجيش سيتناقص». ويضيف: «خلال هذا الأزمة، دفع الأغنياء مبالغ كبيرة، وبالعملة الصعبة، لتهريب أولادهم المطلوبين إلى الخدمة خارج البلاد. وكذلك هرب عدد كبير من الشبان المطلوبين إلى الاحتياط. إذاً فقد افتقدنا المال والشباب معاً». ووفق حجار، فإن الأغنياء قادرون في كل الأحوال على دفع المال، لتجنيب أبنائهم الخدمة الإلزامية، عبر السفر أو باستخدام طرق غير مشروعة، معلّقاً بالقول: «فليدفعوا وفق طرق مشروعة. ولتكن الخزينة العامة هي المستفيد».
وعلى الرغم من الشرح الوافي للمشروع المثار، غير أن حجار ينفي طرحه تحت قبة مجلس الشعب نهائياً من قبل أي من الأعضاء، مضيفاً قوله: «لن نعبر الجسر قبل أن نصل إليه». كلام يوضح وجهة نظر بدأت تسود المنطق الاجتماعي، بضرورة وضع حدّ لمعاناة شبان سجنتهم الحرب على الجبهات، من بينهم دورتا الخدمة رقم 102 و103، ودورات أُخرى جاءت بعدهما، لا نهاية معروفة لأوجاع عناصرها.