يخطر في بالك أن تكتب عبارة مثل «بكم كيلو النفاق الوطني اليوم؟»، في توصيف أحوال شريحة ثقافية اقتحمت المشهد بسطوة الكراسي، والفساد المزمن، والخطاب التعبوي. عليك أن تتخيّل البلاد على هيئة ذبيحة معلّقة بكلّاب معدني خلف واجهة زجاجية، فيما ينهمك الجزّارون بسنّ سكاكينهم ذهاباً وإياباً بشعارات جاهزة لطرد القطط الضالة عن عتبة الدكان.
لكل جزّار من هؤلاء نسخته الشخصية من أقوال ابن خلدون في النفاق يتأبطها أينما ذهب للدفاع عن مصالحه الشخصية في المقام الأول قبل أن يغلّفها بسولفان الوطنية البرّاق، لزوم قطف الثمار الطازجة. ذلك أن هناك ما يشبه سوق البورصة للاستثمار. بضاعة بلاغية، مستهلكة ومدرسية وجوفاء، تطفو على السطح من مفرمة صدئة. لا نقصد هنا بالطبع، كتيبة المحللين الاستراتيجيين الذين انبثقوا فجأة مثل صنابير مياه مفتوحة غمرت الشاشات واستديوات الأخبار، إنما النخب الطارئة التي تسللت إلى الواجهة بكامل عتادها اللفظي، وبقايا محفوظاتها المدرسية من الأناشيد والشعارات والهتافات. لا نعترض على هذه الحماسة الفائضة، في حال لم يطلب صاحبها مقابلاً لشغفه بإيقاع أغنية «حلوة يا بلدي». أما أن ينتظر عند الباب ثمن الفاتورة، فهذا ما لا يدخل في باب الوطنية كواجب مقدّس لا يحتمل المساومة، وتالياً فإن المواقف الوطنية المعلنة تقع تحت بند «موقف وطني للإيجار»، وربما للبيع القطعي، وفقاً لحجم الجعالة المنتظرة من أصحاب الشأن. وبناء عليه، انتشرت فوضى المصالح بمعايير تدعو للغثيان. كثرة الطبّاخين أفسدت الوجبة بتجاهل كمية الملح المطلوبة، وبإعادة تدوير لطبخة البحص، من دون إضافة أي توابل جديدة، عدا نبرة التهديد للآخر، وبث الرعب في أوصاله، في حال فكّر بالاحتجاج على زيادة عيار النفاق المكشوف، وتجاهُل حجم المصائب، ونبذ الأكاذيب. هكذا لم يعد مستغرباً أن تجد جحافل من منتحلي الصفة، و«الدال» المزوّرة، وطبعة محليّة من «طرطوف» موليير في النفاق، مما راكم قيم النهب والتشويه والخراب، كما لو أننا أمام فيل في متجر للخزف