في تموز (يوليو) الماضي، قاد الأب توفيق معتوق في «كنيسة القديس يوسف» (مونو ــ الأشرفية) «القدّاس الجنائزي» لموزار. العمل غير المكتمل بدأه الرجل في فترة صعبة من حياته: العمل الشاق، ومرض زوجته، وديونه المتراكمة. ثم تابع تأليفه (ولم ينهِه) على فراش الموت، قبل أن يغلبه المرض في تمام الواحدة إلاّ خمس دقائق بعد منتصف ليل الرابع/الخامس من كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1791.
جميلٌ واستثنائي أن نسمع هذا العمل العظيم مرّة ثانية بعد نحو ستة أشهر، وهذه المرة أيضاً في «القديس يوسف». في الصيف، قاد الأب معتوق أوركسترا إيطالية وشارك في أداء «الجنازة» كورال «الجامعة الأنطونية» إضافة إلى 4 مغنين منفردين من إيطاليا. هذا المساء تؤدي هذه التحفة «الأوركسترا الوطنية الفلهارمونية» بقيادة لبنان بعلبكي (الصورة)، إضافة إلى كورال «الأنطونية» (تحت إدارة الأب معتوق) ومغنيتَين إيطاليتَين شاركتا في المرة السابقة، في حين استُبدِل المغنيان الإيطاليّان باللبنانيَّين التينور بشارة مفرّج والباص شادي طربيه.
كُتِب الكثير عن هذ العمل، وأضاف بعض المؤرّخين تفاصيل من عندهم، وكذلك فعلت بعض الأعمال الأدبية والمسرحية والسينمائية (مثل مسرحية «موزار وسالييري» للروسي بوشكين وفيلم «أماديوس» لميلوش فورمان، المستوحى من مسرحية بنفْس العنوان لبيتر شافر)، استطراداً عن أحداث الأشهر الأخيرة من حياة موزار.
لكن تراكم الأبحاث والدراسات أفضى إلى نتائج، بعضها مؤكد وبعضها الآخر بقي غامضاً. أخيراً، أنجزت الباحثة المخضرمة والمتخصصة في موزار، الفرنسية جنفييف جيفريه (1945) دراسة حول آخر 10 أشهر من حياة المؤلف النمساوي (نُشِرَت الشهر الماضي)، استندت فيها إلى حقائق مستنتَجة من رسائل موزار (تلك التي كتبها إلى أفراد عائلته وأصدقائه وتلك التي تلقّاها منهم بالمقابل)، بعدما ترجمتها إلى الفرنسية (1908 صفحات!).
باختصار، «القدّاس الجنائزي» (Requiem) عبارة عن مجموعة صلوات تتلى أثناء الجنازة في الكنيسة الكاثوليكية. كثيرون وضعوا موسيقى على هذه النصوص الدينية، ومن بينهم موزار الذي تلقّى من «رسول مجهول» (مقنّع أرسله أحد الكونتات في تموز/يوليو من العام 1791) طلباً لتأليف موسيقى «الجنازة». ثمة كونت اعتاد طلب أعمال من مؤلفي ذاك العصر قبل أن ينسبها إلى نفسه، وأراد من خلال هذا الطلب إهداء زوجته، التي توفيت قبل سنة عن 21 عاماً، قداساً جنازياً محترماً. لم يعترض موزار على إنجاز هذه المهمّة من دون معرفة صاحب الطلب، بسبب حاجته الماسة إلى المال، هو الذي أمطر أحد أصدقائه الميسورين بوابل من رسائل الاستدانة في الأسابيع الأخيرة من حياته. في تلك الفترة، كانت زوجة موزار حاملاً، وعلى وشك وضع ابنهما الثاني (26 تموز/يوليو 1791) ولم يكن حملها سهلاً، إذ عانت عوارض كثيرة تطلّبت علاجات خاصة. بين انشغاله بزوجته الحامل ثم بمولوده الجديد، إضافة إلى عمله على عملَين أوبراليَين ضخمَين وكونشرتو للكلارينت وغيرها من الأعمال المتفرقة، لم يكن ينقص موزار سوى تردّي وضعه المادي الذي أجبره على القبول بتأليف موسيقى «القدّاس الجنائزي». أتى المرض (غير المحدّد لغاية اليوم) ليجهز عليه، ويجبره على الاستعانة بتلميذه الشهير، فرانتس كزافر زوسماير، لتدوين نوتات لم يعد يقوى على «رسمها» على تلك الأسطر الخمسة. كتب موزار بخط يده جزءاً من هذا العمل وبعض الخطوط العريضة، ودوّن تلميذه جزءاً آخر بتوجيهٍ من المعلّم. عبّر موزار، مع دنوّ ساعته، عن شعوره القوي بأنه يؤلف موسيقى جنازته! رغم التعب والمرض، طلب المؤلف الكبير إنجاز تمرينات على المقاطع المنتهية من العمل، وتولّى بنفسه غناء الشق المكتوب لصوت الآلتو (الصوت الجهور عند النساء). بعدما أسلم الروح، أوكلت أرملت موزار مهمّة إكمال العمل (بغية بيعه، بسبب حاجتها إلى المال) بدايةً إلى مؤلف يدعى جوزيف أيبلر، ثم إلى التلميذ الحبيب زوسماير، الذي أنجز المهمّة بعدما تابع مراحل تأليف العمل مع معلّمه. لكن، لغاية اليوم، ورغم تطوّر العلم والطب والتحليل المخبري، لم يٌحسَب سبب وفاة موزار. هناك أكثر من 150 فرضية، بعضها ينضح بالخيال الرومنسي (القول إن المؤلف الإيطالي غير الموهوب أنطونيو سالييري وضع له السمّ بسبب الغيرة القاتلة)، وبعضها علميّ/ طبّي لكن غير جازم مئة في المئة… وأجمل هذه الفرضيات أن موزار أرهق نفسه بالعمل حتى الموت. بعبارة أخرى، أفدى الجمال بنفسه لأجلنا. أليس هو القائل: «لكي أفرحكم، أضحّي بسعادتي، بصحّتي، بحياتي»؟
الأداء الذي قدّمه الأب توفيق معتوق لــ «الجنازة» قبل أشهر كان جيداً جداً بالعموم، باستثناء الخيار غير موفّق لسرعة الإيقاع (tempo) في أحد المقاطع. فقد أدّى ذلك إلى «سلْقه»، إذ تخطت السرعة المعتمدة الحدود القصوى التي يليها التداخل غير المفهوم للنغمات. وهذا ما يجب أن يستفيد منه لبنان بعلبكي، لكي يتفادى هذا النوع من الهفوات الناجمة عن الحماسة الفائضة في الأداء الحيّ.

*«القدّاس الجنائزي» لموزار بقيادة لبنان بعلبكي: اليوم ــ الساعة الثامنة مساء ــ كنيسة «القدّيس يوسف» (مونو ــ الأشرفية). الدعوة عامّة.