شكّلت زيارة ولي العهد السعودي محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود للجزائر هذا الشهر خطوة جديدة في التقارب بين المملكة العربية السعودية والجزائر، بعد عامين من تردّي العلاقات بينهما على خلفية الاختلاف الحاد في الآراء بين البلدين في منظمة الدول المصدّرة للنفط «أوبك» والسياسة الهجومية التي اتبعتها الرياض في إدارتها للملف السوري، إضافة إلى الحرب السعودية على اليمن.
فوسط كل هذه المصاعب التي تمر بها السعودية، ومنها مأزق حرب اليمن والمنافسة الشرسة في أفريقيا التي تهدد علاقة المملكة مع مصر، كما وتنامي الخلافات مع الولايات المتحدة، حليف المملكة الاستراتيجي الذي لم يعد بالإمكان التنبؤ بتوجهاته بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً، تسعى الرياض إلى تجنّب العزلة الدبلوماسية عبر إجراء بعض التغييرات الطفيفة في سياستها تجاه الجزائر.
والسعودية، التي امتنعت منذ عام 2014 عن تخفيض إنتاجها للنفط لإعادة رفع سعره بعد انهيار سوق النفط والغاز، قررت الآن إعادة النظر في موقفها والاستجابة لتشجيعات الجزائر. ومع أنها لا تتمتع بثقل كبير في منظمة «أوبك»، بذلت الجزائر جهوداً دبلوماسية مهمة أفضت إلى توقيع اتفاق في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بين الدول المصدّرة للنفط هدفه تخفيض إنتاج النفط العالمي بمعدل 1.8 مليون برميل يومياً. وقد التزمت السعودية بهذا الاتفاق لحفظ حصتها من السوق أمام المنافسة الأميركية، كما عبّرت في 22 كانون الثاني/ يناير عن شعورها بـ«الرضى والتفاؤل» على لسان وزير طاقتها خالد الفالح الذي وصف الالتزام بالاتفاق بـ«الرائع والمذهل»، متماهياً بالتالي مع توجهات الجزائر. علاوة على ذلك، تبدو الرياض على وشك تكليف الجهات الدبلوماسية الجزائرية بالتوسّط سراً للوصول إلى مخرج مقبول للسعودية من المستنقع اليمني. ويأتي هذا التقارب بين الطرفين بعد بضعة أشهر فقط من التوترات التي شابت العلاقة بينهما على خلفية الملف السوري والموقف من حزب الله. ومن المعروف أن العلاقات الجزائرية ــ السعودية، التي غالباً ما توصف بالبراغماتية لتأثرها بالسياق الجيوسياسي، تشهد تقاربات بين الحين والآخر، إلا أنها لم تتطور يوماً إلى تحالف ثابت، ويعود ذلك لأسباب تاريخية واستراتيجية.
وإذا كانت ضرورات الوضع الأمني الإقليمي الجديد قد دفعت بالجزائر إلى إعادة تنشيط سياستها الإقليمية وأداء دور الوسيط في النزاعات، يبقى مبدأ عدم التدخل هو القاعدة التي لا غنى عنها في الحراك الدبلوماسي الجزائري. فقد ولدت الدولة الجزائرية تاريخياً من السعي نحو تحقيق الاستقلال والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفيما أمّمت الجزائر في عام 1971 ثرواتها الوطنية وأكّدت سيادتها، لم تكفّ السعودية، منذ «اتفاق كوينسي» (المزعوم) المُبرَم في شباط/ فبراير عام 1945، عن تزويد الولايات المتحدة بموارد الطاقة مقابل حصولها على الحماية من أي تهديد خارجي. ورداً على النظام السعودي، حامي التزمّت الديني واللاعب الأبرز في منظمة التعاون الإسلامي التي تأسست عام 1969 ومُصدِّر الإيديولوجيا الوهابية لتقويض القومية العربية، أعلنت الجزائر في عام 1974 على لسان رئيسها أن اللجوء إلى النظام الأخلاقي الإسلامي لا يمكنه أن يحيد النقاش عن المسائل الاجتماعية. ففي قمة منظمة التعاون الإسلامي المعقودة في لاهور الباكستانية في عام 1974، قال الرئيس هواري بومدين، المدافع عن القومية العربية وعن الإسلام، إن «التجارب الإنسانية أثبتت أن الروابط، سواء كانت جغرافية أو وطنية أو دينية، تلاشت تحت ضربات معاول الفقر والجهل والتعسّف والطغيان لسبب بسيط هو أن الناس لا يريدون الذهاب إلى الجنة جياعاً. الشعوب الجائعة بحاجة إلى خبز، والشعوب الجاهلة بحاجة إلى المعرفة، والشعوب المريضة بحاجة إلى مستشفيات».
ولطالما كان بومدين حذراً في تعامله مع المملكة العربية السعودية غير المتضامنة مع باقي الدول العربية وغير المنخرطة ميدانياً في النضال من أجل القضية الفلسطينية وغير المتعاونة في مسألة سعر النفط. أما التحسّن الذي طرأ على العلاقات بين البلدين في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد فلا يعدو كونه تقارباً شديد البراغماتية وذا طبيعة اقتصادية في جوهره.
وقد نجحت الجزائر في تحصين نفسها من محاولات السعودية لزعزعة الاستقرار فيها، بما في ذلك خلال الحرب الأهلية الدموية في التسعينيات. فقد بقي تأثير الإيديولوجيا الوهابية على الحركات الإسلامية الجزائرية محدوداً جداً لسببين أساسيين، أولهما أن التراث الإسلامي الجزائري كان تاريخياً مناهضاً للاستعمار ومتأثراً بأفكار الإمام عبد الحميد بن باديس، وبالتالي فإن هذا التراث يكتنف بعداً وطنياً واضحاً جداً. والسبب الثاني هو أن جزءاً كبيراً من الحركات الإسلامية الجزائرية له علاقة بجماعة الإخوان المسلمين المعادية للوهابية. وفي ما عدا بعض الفصائل الصغيرة المسلحة التي تتبنى الإيديولوجيا الوهابية وتتألف من الجهاديين القدامى في أفغانستان، لم تتمكن السعودية من استخدام ورقة الوهابية لممارسة الضغوط على الجزائر. ولكن عبر الدعم الدبلوماسي والمالي الكبير الذي قدمته إلى المغرب، وخصوصاً في مسألة نزاع الصحراء الغربية (علماً بأن المغرب بات اليوم الشريك الأساسي للسعودية في غزوها للأسواق الاقتصادية الأفريقية)، عملت السعودية عكس التوجهات الاستراتيجية الجزائرية.
بالرغم من ذلك، تمكنت الجزائر والرياض من تطوير علاقاتهما الاقتصادية ولو أنهما لم تبلغا مرحلة التحالف الاستراتيجي. فزيارة رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال للسعودية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أعطت «نفَساً جديداً» للعلاقة بين البلدين ومهّدت الطريق لتعميق التعاون الاقتصادي بينهما وتنويعه. واليوم، فيما تزداد العلاقة بين مصر والسعودية سوءاً مع ترسيخ التعاون السعودي ــ المغربي لتوسيع رقعة تأثيرهما أفريقياً، قد تضع الرياض خلافاتها مع الجزائر جانباً.
من جهتها، تواجه الجزائر رفضاً مصرياً لمساعيها الهادفة إلى التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية، وهو عنصر أساسي لاستقرار المنطقة، وبالتالي قد يكون من مصلحتها أيضاً تحييد خلافاتها مع الرياض. كل هذه التطورات تؤكد مرة جديدة القاعدة التاريخية التي تحكم العلاقات بين الدول: السياسة لا تعرف المشاعر، بل المصالح فقط. والتقارب الجزائري ــ السعودي ليس استثناءً.