عادة، لا يُشارك الركّاب الأجانب في الأحاديث التي تدور داخل "التاكسي" اللبناني. غالباً، لا يَفهمون ما يُقال، وربّما هذا مِن حُسن حظّهم. إن حصل وفهِم أحدهم، فإنّه يتهيّب المُشاركة، ويزداد هذا التهيّب إن كان الراكب الأجنبي مِن ذوي البشرة السمراء. قبل أيّام، كان مازارو يَجلس صامتاً في المقعد الخلفي. قرّر "الشوفير" فتح حديث مع الراكب جنبه، اللبناني مثله، في أزمة قانون الانتخابات النيابيّة التي كثر الحديث فيها إعلاميّاً. لسببٍ ما، لا يستطيع هؤلاء "الشوفيريّة" الكفّ عن هذه العادة. لا بُدّ مِن دردشة.
فجأة، يَنظر في مرآة سيّارته إلى الراكب الخلفي، ليسأله مُبتسماً: "دخلك عندكم انتخابات بسريلانكا؟". إنّ الراكب بنغالي الجنسيّة، هذا ما تبيّن لاحقاً. هذه مجرّد تفاصيل عند السائق اللبناني، فالمهم أن الآخر بشرته سمراء، تلك السُّمرة العائدة لشعوب منطقة "الفيدا" تحديداً. مازارو يَفهم العربيّة قليلاً. فبعدما استفسر عن معنى "انتخابات"... أجاب: "أنا بنغلادش، بس أيه في انتخابات". ضحك السائق، قائلاً للبناني الآخر: "عجبك! يا زلمي صرنا مضحكة العالم".

لا يوجد لديهم في القانون الانتخابي شيء اسمه «القيد الطائفي» الكلّ سريلانكيّون

اللبناني الآخر ستستفزّه اللحظة. سيبحث، لاحقاً، في الحياة السياسيّة السريلانكيّة. آخر انتخابات نيابيّة حصلت هناك كانت قبل نحو عامين. لم يحصل أن مدّد النواب لأنفسهم. تُجرى الانتخابات عندهم وفقاً للنظام النسبي. هم هكذا منذ آخر تعديل دستوري عام 1978. شعبهم مؤلّف مِن أديان وما يُسمّى "أعراقاً" مختلفة. بوذيّون وهندوس ومسلمون ومسيحيّون. سنهال وتاميل ومورو وغيرهم. عددهم نحو 20 مليوناً. في مجلس نوّابهم 225 مقعداً. الانتخابات المباشرة توصل 196 نائباً، أما الباقون، وهم 29 نائباً، فيُختارون وفق عدد الأصوات التي يَحصل عليها كلّ حزب، ودائماً وفق التمثيل النسبي. في الانتخابات النيابيّة الأخيرة، لم يتطلبّ الإعداد اللوجستي للعمليّة، زمنيّاً، أكثر مِن خمسة أسابيع. نحو شهر يعني. لم تكن المدة القصيرة حجّة لتأجيل أو تمديد. ثقافة الانتخاب في سريلانكا أصبحت ناضجة، إذ يُمارَس الفعل على نحو شبه سنوي، بين انتخابات رئاسيّة ونيابيّة وبلديّة وغيرها. والأهم مِن كلّ هذا، أن الوجوه السياسيّة تتغيّر، فعلاً.
لا يوجد لديهم في القانون الانتخابي شيء اسمه "القيد الطائفي". الكلّ سريلانكيّون. أقلّه في القانون هكذا. عاشت تلك البلاد حرباً أهليّة دامت 25 عاماً. خرجوا مِنها وما زال تبادل السُّلطة يَحصل بنحو طبيعي. المرأة حاضرة سياسيّاً. ذات مرّة كانت رئيسة للبلاد. كثيرون هناك، إلى الآن، يحلفون باسمها ولا تُذكر غالباً إلا بالخير. "نمور التاميل" انتهوا. خسروا الحرب. لكنّ جماعتهم اليوم تُشارك في الحياة السياسيّة. سنّ الاقتراع في تلك البلاد، للذكر والأنثى، 18 عاماً (في لبنان 21 عاماً، وهذه الآن، وسط ضجيج القوانين الانتخابيّة، لا تجد ما يتكلّم حولها - رفع سنّ الاقتراع). الرئيس السريلانكي يُنتخب مِن الشعب مباشرة. يدرسون الآن تعديلات دستوريّة لمزيد من التحسين. عندما خسر الرئيس السابق الانتخابات، ماهيندا راجاباكسي، في ظل مآخذ عليه، صرّح قائلاً: "أقرّ بأنّنا خسرنا معركة قاسية... وجميلة". لم يقل إنّه "سيحرق الأبيض... واليابس" إن نقصت حصّة حزبه نائباً واحداً. ليسوا ملائكة هناك. لا وجود للملائكة على الأرض. لكن أقلّه يسعون إلى تخفيف مستوى "الزناخة" السياسيّة، وهم، على ما يبدو، ينجحون في ذلك.
الحسّ السياديّ عالٍ عندهم. أعلى مِن عندنا حتماً. عندما قرّر "خبراء دوليّون" الدخول إلى بلادهم للتحقيق في قضايا "حقوق الإنسان"... رفضت الحكومة ذلك. بوضوح قالها وزير الخارجيّة السريلانكيّة: "لن نمنحهم تأشيرات دخول. لن نسمح لهم بدخول بلادنا". أكثر مِن ذلك، عندما عيّنت ميشيل سيسون سفيرة للولايات المتحدة في سريلانكا، بعدما كانت سفيرة في لبنان، تحرّك الإعلام السريلانكي محذّراً حكومته. كتب، آنذاك، الصحافي دايا غاماج مقالاً بعنوان: "بعد التدخّل في سياسات لبنان، سيسون تتوجه إلى سريلانكا مبعوثة أميركيّة جديدة". مِن بين 167 دولة، يأتي ترتيب سريلانكا في المركز 69 على لائحة "مؤشّر الديموقراطيّة. ترتيب لبنان يأتي في المركز 98 (يوصف نظام الديموقراطيّة اللبناني وفق المؤشر بالهجين - بغضّ النظر عمّن يُنظّم هذه المؤشرات وخلفياته، إنّما لمن يهمّه الأمر). أمّا بحسب مؤشّر الفساد العالمي، فيأتي ترتيب سريلانكا في المركز 95 مِن أصل 176 دولة، فيما حلّ لبنان في المركز 136.
سائق "التاكسي" إيّاه، قبل نهاية الدردشة، توجّه إلى راكب المقعد الخلفي مُجدّداً، وقال له ساخراً: "نحن ما عنّا انتخابات بلبنان، مش حرام هيك!". فأجابه مازارو: "أيه، حرام لبناني".