شكّل غياب جريدة «السفير» علامة فارقة في الإعلام العربي، كما أن حضورها كان علامة فارقة في الصحافة والسياسة في لبنان. الخصوم والأصدقاء اعترفوا للجريدة بدور فعّال ومؤثّر في الثقافة السياسيّة اللبنانيّة، خصوصاً في سنوات الحرب الأهليّة. والشماتة لا تزال تعتمر* في صدور البعض في لبنان: لكن ما أن يشمت إعلامي بزوال وسيلة إعلاميّة حتى يُفاجأ هو بزوال وسيلته الإعلاميّة. مهنة الإعلام يُعاد رسمُها وتصميمها وبناؤها من جديد.
ماتت المجلّة السياسيّة وها هي الجريدة السياسيّة تواجه أخطاراً حقيقيّة. لم يكن مألوفاً أن تزول صحيفة ورقيّة في لبنان. حتى جريدة «الشعب» في الستينيات والسبعينيات بقيت تصدر على قلّة توزيعها وانتشارها: لكن اعتمادها على السفارة المصريّة حيناً وعلى سفارة كوريا الشمالية حيناً آخر حافظ على رمقها. لكن بيروت عجّت بالصحف والمطبوعات بصورة مشبوهة: لم يكن مفهوماً كيف أن عاصمة بلد صغير تحتوي عدداً هائلاً من وسائل إعلام لا تتوفّر في بلاد تحتوي أضعاف عدد سكّان لبنان. لا، الجواب ليس في مقولة الحريّات الفريدة المُكرّرة عن مسخ الوطن. بيروت احتضنت ــ على نفور العبارة ــ عدداً من مقرّات المخابرات الأجنبيّة والمؤامرات الخارجيّة منذ أوائل القرن العشرين. انطلاق الصحافة العربيّة لم يكن نتاجاً للمجتمع المدني، أو لصعود الطبقة الوسطى. كان منذ البدايات مرتبطاً بتداخل النفوذ الأجنبي في بلادنا، خصوصاً في بيروت. واعتراض شكيب أرسلان على القوميّين العرب الأوائل كان مبعثه ارتباط هؤلاء بالنفوذ الغربي، ورغبتهم في استبدال الاستعمار العثماني بالاستعمار الأوروبي. وولاءات أحمد فارس الشدياق المتوالية لخّصت البدايات.

معجزة «السفير»
أنها خرقت معايير
«النهار»

لكن غياب جريدة «السفير» يطوي مرحلة من الصحافة العربيّة ومن تاريخ لبنان المعاصر. الصحافة في لبنان قبل الحرب كانت انعكاساً لـ«الحرب العربيّة الباردة»، بين «ناصر وخصومه». «الحياة» و«النهار» و«العمل» كانت تمثّل مصالح الدول الغربيّة فيما مثّلت صحافة المعارضة القوميّة العربيّة واليساريّة مصالح المدّ الناصري والنفوذ الشيوعي (المُحارب في لبنان). قد تكون المواجهة بين نظام عبد الكريم قاسم وبين آل الصباح بداية لهجوم المال النفطي على صحافة لبنان. بدأتها السلالة الكويتيّة الحاكمة، وتبعها الآخرون. ومجلّة «الحوادث» (التي مثّل صاحبها، سليم اللوزي، أسوأ نموذج للصحافة العربيّة الانتهازيّة ــ لكن قتله البشع على يد أتباع النظام السوري أعاد كتابة سيرته وجعل منه «صحافيّاً كبيراً» وقديراً مع أنه برع في صحافة التابلويد والإثارة والانفتاح على المخابرات العالميّة، كما كتب إبراهيم سلامة عن تلك الفترة، وهو الذي عاشها من الداخل). كانت الصحافة الناصريّة (مثل «الحوادث») تماشي عبد الناصر (وهو حي فقط) وتقبض من أنظمة الخليج فقط كي لا تنتقد خصوم ناصر فيها (كما قال سليم اللوزي ذات مرّة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أن سعر الثناء هو أبهظ بكثير من سعر السكوت).
عناصر خمس أطلقت وأمدّت الصحافة العربيّة في لبنان: ١) الصراع بين الاستعمار العثماني والاستعمار الأوروبي الذي أطلّ بقوّة عشيّة الحرب العالميّة الأولى للاستيلاء على المنطقة. ٢) الصراع بين مختلف دول الاستعمار الغربي والتنافس على حصص المنطقة وأنفال الحروب. ٣) الحرب الباردة بين الجبّارين والإنفاق الأميركي الهائل من أجل محاربة الشيوعيّة. والصحافة اللبنانيّة، مثل «النهار»، كانت ــ لمَن يعود إليها لمراجعتها ــ بوقاً صفيقاً ضد الشيوعيّة إلى درجة أن «النهار» اتهمت في عام ١٩٥٩ الشيوعيّين في لبنان بتفجير المركز الثقافي الروسي وجريدة «الأخبار» ومطبعة «الكفاح» لـ«استدرار العطف» («النهار»، ٢٧ آذار، ١٩٥٩). ٤) الحرب العربيّة الباردة بين عبد الناصر وخصومه، والصراع بين مختلف الأنظمة فيما بعد. ٥) صحافة الأحزاب، وهي كانت ولا تزال فرعاً من الصراع بين الأنظمة لندرة الأحزاب المفتقرة لأذرع خارجيّة.
وانطلاق جريدة «السفير» كان حدثاً كبيراً في حينه. كانت بيروت تعجّ بالصحف والمجلاّت، لكن كانت «النهار» هي السائدة والمُسيطرة على السوق، كما أن «الحوادث» كانت الأبرز في سوق المجلاّت. و«النهار» كانت ناجحة بحكم قربها من النظام اللبناني ومن قطاع الأعمال الاحتكاريّ (هذا عدا عن التمويل الأجنبي الذي لم يتوقّف. روى لي الراحل كلوفيس مقصود عن تمويل «النهار» في السنوات الأخيرة قبل اغتيال الحريري. قال: كان غسّان تويني يُرسل ابنه جبران إلى الكويت، ويتضرّع في سرّه لأن لا يقتطع جبران مبلغاً كبيراً جدّاً من الحصّة كعادته بعد جولات كهذه). «السفير» استفادت من تمويل ليبي (مع أن الرواية الرسميّة التي نشرها صاحبها في سنتها الأخيرة تضمّنت كلاماً عن قرض غير ميسّر، ما يزيد من الأسئلة عن «السفير»: إذا لم تكن مموّلة من النظام الليبي فلماذا كانت تنشر حوارات «ثقافيّة» عن «الكتاب الأخضر» وتنشر أقولاً للعقيد وتنشر أخباراً ترويجيّة عن النظام الليبي؟ هل كان ذلك عن اقتناع بريء من الهوى؟) لكنها نجحت بسرعة كبيرة.
إن نجاح «النهار» كان يرجع للويس الحاج أكثر مما كان يرجع لغسان تويني. الحاج كان هو رئيس التحرير الفعلي، صاحب القلم اللاذع والحس الساخر والذي جذب القرّاء بعناوينه الجاذبة (إن جملة «لو دامت لغيرك» على مدخل السراي الحكومي لم تكن ــ خلافاً للرواية الرسميّة الشائعة ــ من بنات فكر رفيق الحريري وإنما كانت نقلاً عن عنوان بالجملة المذكورة بقلم لويس الحاج، يسخر منها من فخامة الترميم الحريري). و«النهار» كانت جريدة ذات ستار ليبرالي مزيّف، فيما هي يمينيّة رجعيّة عنصريّة وطائفيّة. كان يُسمح لمحرّرين من بعض الطوائف «الأخرى» بالعمل فيها لكن الإدارة كانت حصراً طائفيّة التكوين والهوى (يفصح لويس الحاج في «من مخزون الذاكرة» عن مكنوناته الكتائبيّة فيما يفصح غسّان تويني في «سر المهنة» عن ولائه لكميل شمعون).
كانت «المحرّر» الردّ القوي على جريدة «النهار» لكنها كانت تعاني بحكم ولائها للبعث العراقي ليس فقط من قمع النظام اللبناني، وإنما أيضاً من تفجيرات النظام السوري الذي فجّر مبناها وأغلقها بمجرّد أن وصلت قوّات «الردع» السوريّة إلى بيروت الغربيّة. «المحرّر» كانت «السفير» قبل ولادتها، لكنها كانت زاعقة وفاقعة في سياستها وأكثر ميلاً للإثارة والتحريض. لكنها عرّفت أجيالاً على «فلسطين» من خلال ملحقها بالاسم نفسه، وجمعت ــ خلافاً لـ«النهار» ــ محرّرين ومحرّرات من مشارب ومذاهب مختلفة، ومن جنسيّات متنوّعة. «المحرّر» كانت جريدة قوى اليسار والقوميّة العربيّة الصاعدة، بالإضافة إلى تعبيرها عن مصالح البعث العراقي. لكنها كانت أقلّ حرصاً على المهنيّة والحرفيّة في العمل: أذكر عنواناً لها عن «طبول بغداد» في إشارة إلى معارضين للحكم هناك. و«المحرّر» كانت أيضاً بديلاً من الضيق الثقافي الفينيقي التي تضمّنته جريدة «النهار»، وكانت منبراً عربيّاً جامعاً يدعو إلى ثقافة لبنانيّة مغايرة. ولا يمكن كتابة تاريخ صعود المدّ اليساري والقومي العربي في الستينيات والسبعينيات من دون ذكر دور «المحرّر» وفيما بعد «السفير».
«السفير» بدأت مختلفة. كانت صحيفة جديّة وشاملة منذ بدايتها. كانت المعادلة التي حكمت انطلاقتها حكيمة: أن تكون كل أقسامها قويّة ونافذة ومتينة، من القسم «الرياضي» إلى القسم «العربي والدولي». والصورة كانت بالأهميّة نفسها (كما كانت في جريدة «المحرّر» حيث كانت صور السياسيّين بعدسة لبيب ريحان تثير غيظ الطبقة الحاكمة). و«السفير» كانت ضروريّة قبل اندلاع الحرب، زادت ضرورتها بعد اندلاع الحرب حتى لا يقع القرّاء أسرى «النهار» و«الأحرار» و«العمل» (وجريدة «الأنوار» تحوّلت بعد وفاة جمال عبد الناصر من جريدة ناصريّة إلى جريدة إماراتيّة الهوى والتمويل). و«السفير» خلقت ثقافة خاصّة بها.

غابت «السفير»
لأن شعارات المرحلة
تغيّرت جذريّاً
جمعت عاملين وعاملات من خلفيّة ثقافيّة وسياسيّة وطبقيّة متنوّعة (كانت «النهار» مثلاً تنحاز إلى خرّيجي الجامعات الخاصّة فيما فتحت «السفير» الأبواب لخرّيجي وخرّيجات المدارس والجامعات الرسميّة). خلطة «السفير» (على أكثر من صعيد) انعكست في نتاج الجريدة الفريد. وقد تكون «السفير» أوّل جريدة لبنانيّة شجّعت انخراط المرأة في العمل الصحافي وإن تأخر تعيين المرأة في مواقع قياديّة وإداريّة فيها. فرضت «النهار» معاييرها الثقافيّة والسياسيّة على أنها متفوّقة «موضوعيّاً». معجزة «السفير» أنها خرقت معايير «النهار». أقنعت «النهار» العالم العربي، أن بيار صادق (ذا الرسوم الصبيانيّة الفاقعة في مباشرتها) هو أفضل رسام كاريكاتور في العالم العربي (طبعاً، كان المصريّون متفوّقين في هذا المضمار كما كانوا الروّاد، لكن من دون ضجيج أو دعاية). ناجي العلي طبع «السفير» مبكّراً وتحوّل إلى ظاهرة. تجول على مواقع التواصل الاجتماعي اليوم ولا ترى أثراً يذكر لبيار صادق، فيما تجد ناجي العلي يوميّاً على الصفحات وعلى الأوشام والحلي.
منع النظام السوري بالقوّة جريدة «المحرّر» من الصدور، فتحوّلت «السفير» إلى جريدتيْن يوميّتيْن بالخلافة، كما ورثت عدداً من الصحف والمطبوعات الناصريّة التي ابتاعتها أنظمة الخليج بعد وفاة عبد الناصر والفورة النفطيّة. وكان هذا مكمن قوّة «السفير». هي بقيت صامدة بوجه المدّ الرجعي اليميني المُنتشر في لبنان. لم تعادِ «السفير» دول الخليج في سنواتها الأخيرة، إلا في سنتها الأخيرة، وهي هادنت مع عدد من الأنظمة العربيّة عبر السنوات. لكن كان مضحكاً في الأشهر الماضية أن تقرأ نقداً لـ«السفير» وعلاقتها بالنظام الليبي من كاتب في جريدة تابعة للنظام القطري أو من كاتب في جريدة تابعة لأمير سعودي، كأن مساحة التعبير في «السفير» هي أضيق من مساحة الكتابة في صحافة الأمراء والشيوخ. والمفارقة أن هناك مَن ترك «السفير» بحجّة أن مساحة تعبيرها ضاقت به وانتهى مرتاحاً هانئاً في صحافة حريريّة أو سعوديّة أو قطريّة. طبعاً، بالمقارنة، كانت «السفير» أرحب بكثير. لكن «السفير» أتت في سياق بروز صحافة النفط غير الخليجي يومها. أراد النظام العراقي والنظام الليبي كسب مساحة في الفضاء الإعلام العربي وحدث تسابق بين النظاميْن على ابتياع وإنشاء الصحف والمطبوعات. كانت السبعينيات حقبة طفرة في المطبوعات الإعلاميّة العربيّة لكن صحافة الأنظمة كانت غالبة، خصوصاً عندما هاجرت الصحافة اللبنانيّة إلى أوروبا وتنافست أجهزة المخابرات النفطيّة (الخليجيّة والجمهوريّة) على رعاية الأبواق. أكثر من ذلك، الدفق المالي على منظمّة التحرير الفلسطينيّة أدّى هو الآخر إلى طفرة صحافيّة في مطبوعات المنظمّات المنضوية في إطار منظمّة التحرير: كان للجبهة الشعبيّة مجلّة «الهدف» الأسبوعيّة وكان لها لفترة جريدة يوميّة باسم «الثورة مستمرّة»، وكان لجبهة الرفض مجلّة خاصّة بها. وأصدرت حركة فتح جريدة يوميّة باسم «فلسطين الثورة». لكن لم تكن صحافة منظمّة التحرير صحافة مهمة. لم تعد «الهدف» كما كانت في سنوات غسّان كنفاني أو حتى في سنوات السبعينيات حتى ١٩٧٦: الفقر كان أفضل للصحافة الثوريّة من الثراء. غلب الطابع الروتيني على تلك الصحافة وكان هناك الكثير من «القَصْقَصَة» والتصوير الزنكوغرافي عن مطبوعات أخرى ووكالات الأنباء. وجريدة الحركة الوطنيّة، «الوطن»، لم تنجح بالرغم من التمويل الليبي، ربما لأن «السفير» كانت صحيفة رصينة وناطقة غير رسميّة باسم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة.
لكن «السفير» غلّبت أحياناً شعاراتها والتزامها على تغطيتها الصحافيّة. النزعة الانتصاريّة لم تتوافق مع الحاضر. قصّرت «السفير» في تغطية أخطاء الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة، ما أدّى إلى تغطية مرتكبة للاجتياح الإسرائيلي في عام ١٩٨٢ ومترتبّاته الكارثيّة. لكن الجريدة ساهمت منذ سنتها الأولى في إيلاء الوضع في الجنوب أهميّة لم تولِها جريدة مثل «النهار» والتي كانت بوقاً للنظام وأدواته في كل الطوائف، خصوصاً في صفوف الإقطاع الشيعي، أو في تلك الرموز الطائفيّة التي كانت ــ مثل المثال شفيق الوزّان ــ طيّعة بيد الطغمة الطائفيّة الحاكمة. نشرت «السفير» تلك الصورة لكامل الأسعد وهو يلعب كرة المضرب في عزّ احتدام الحرب، وكانت تلك الصورة إيذاناً بانتهاء دوره.
والدور الأهم لعبته «السفير» في عهد أمين الجميّل، عندما وقفت ضد حكم وطغيانه حين كان يتمتّع بدعم قوى الاحتلال الأميركي والإسرائيلي والفرنسي في لبنان. حينها، سكتت الكثير من الأصوات وتقاعد الكثير من الأقلام. كان ذلك عندما وجّه جورج حاوي ومحسن إبراهيم برقيّات تعزية حميمة لآل الجميل عن «اغتيال الفقيد المرحوم الشيخ بشير الجميّل». وعبّر إنعام رعد عن «عميق الأسى» لاغتياله آنذاك، فيما رفض الحزب الجنبلاطي «أسلوب الاغتيال السياسي من أساسه» (وإن ما لبث أن مارسه ضد خصومه بعد فترة قصيرة). ووصف نبيه برّي الاغتيال بـ«العمل الإجرامي». كان ذلك يوم قرّر محسن إبراهيم أنه لا يجوز الحكم المُسبق على أمين الجميّل وأنه يجب التريّث قبل إدانته. لكن «السفير»، خصوصاً طلال سلمان، بقيت الصوت المعارض. وفي مرحلة التحضير لاتفاق ١٧ أيّار، ومرحلة التوقيع، عندما خارت قوى كثيرين من الكتّاب (حتى في داخل «السفير») لعب طلال سلمان الدور الأهم في تاريخ الجريدة في الوقوف بوجه التطبيع مع العدوّ والقمع الداخلي الذي كانت أجهزة الدولة الانعزاليّة تمارسه ضد الأبرياء في بيروت الغربيّة وفي المخيّمات وضد المقاومين في كل لبنان. نجا طلال سلمان من الموت بأعجوبة بسبب موقفه هذا ضد طغيان حكم الجميّل.
لكن دور الجريدة تغيّر بعد الانتهاء الرسمي للحرب الأهليّة. خضعت مثل غيرها لسيطرة الحريري الماليّة (كان الحريري يوزّع تمويله بين الصحف، فمنها مَن كان يحوز على نصف تمويل ومنها مَن كان يحوز على ربع تمويل، وهلم جرا). وتغيّرت الجريدة ربما في محاولة تجاريّة لكسب مزيد من القرّاء. فالجريدة التي ما حادت عن خطّها الداعم للمقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة ضد العدوّ الإسرائيلي استكتبت بعد انتهاء الحرب سعيد عقل. كما أن مناصرتها للعدالة الاجتماعيّة في عهد الحريريّة تبخّرت، وهي سكتت عن موبقات الحريريّة. وولاؤها الناصري لم يحل دون مغازلة أنظمة الخليج على أنواعها، ومناشدة قادتها (خصوصاً الملك السعودي، عبدالله) لإصلاح الأمّة (أي مناشدة رأس الفتنة وأدها).
لكن الصحافة اللبنانيّة ليست هي نفسها بعد اليوم. لم تكن الصحف الورقيّة تختفي عن السوق. كانت الصحف تنجو من الاندثار بفعل الرعاية الخارجيّة، ولو تطلّب ذلك التحوّل السياسي الجذري من طرف إلى آخر (على طريقة وليد جنبلاط). أصبح لأنظمة الخليج صحفها العديدة وهي تتنوّع بتنوّع الأمراء والأفخاذ في القبيلة الواحدة. لكن أزمة الصحافة العالميّة وأزمة أسعار النفط وظاهرة صعود الصحافة المحليّة (والمحليّة جداً: مواقع المدن والقرى في لبنان باتت من أكثر المواقع مشاهدة حسب موقع «ألكسا») ستصيب الكثير من الصحف. والصحف باتت إما مملوكة من النظام وأتباعه أو هي مملوكة من أصحاب المليارات (كما في مصر) وبالتنسيق مع الحاكم ومع دول الخليج. أي إن الأمل بالخروج من أزمة الصحافة ضئيل جداً.
ليست الأزمة الصحافيّة لبنانيّة حصريّاً، بل هي عالميّة. صحيفة الـ«لوموند» شهدت انخفاضاً ملحوظاً في مبيعها وتغيّر مالك الصحيفة اليساريّة «ليبراسيون»، وغيّر رأس المال سياستها. أما في دولة العدوّ الإسرائيلي فالأزمة موجودة بالرغم من عامليْن خاصيْن بتلك الدولة الاحتلاليّة: ١) إن طابعها الديموغرافي رمادي، أي أن نسبة الشيوخ والكهول فيها مرتفع (بسبب مستوى المعيشة المرتفع لليهود)، وكبار السن هم الذين يدمنون على قراءة الصحف الورقيّة. ٢) أن نسبة التعلم بين يهود العالم مرتفعة جدّاً فهي تبلغ ٦١٪ (أي الذين يملكون شهادات ما بعد الثانويّة) فيما هي تبلغ نسبة ٨٪ عند المسلمين (في العالم أجمع) و٢٠٪ عند المسيحيّين و١٢٪ عند البوذيين و١٠٪ عند الهندوس و١٦٪ لمن لا ينتمون لأي دين. لكن واقع الصحافة في دولة العدو هو غير ما يبدو عليه. قد تبدو نسب توزيع الصحف مرتفعة هناك لكن أكثر صحيفة مقروءة هناك هي «إسرائيل اليوم» وهي توزّع مجاناً (وهي مملوكة من الثري الأميركي اليميني شلدن ادلسون، الذي أراد اختراق الصحافة الإسرائيليّة خدمة لليمين) وتصل نسبة حصتها في القراءة اليوميّة إلى نحو ٤٠٪ من قرّاء الصحف، فيما تحظى «يديعوت أحرونوت» بنحو الثلث (وكان صاحبها، حسب ما تسرّب أخيراً، في مفاوضات مع نتنياهو من أجل تغيير وجهة سياستها مقابل خدمات ماليّة وتجاريّة). أما صحيفة «هآرتس» التي يزهو بها الليبراليّون العرب، فلا تصل حصتها إلى ٤٪ فقط من مجموع القرّاء. هذه صحيفة تفيد صهاينة الغرب في الزعم أن دولة العدوّ هي ــ أوّاه ــ ذات حساسيّة ليبراليّة.
ستترك «السفير» فراغاً، سيزداد حجماً عبر السنوات سبب الغياب الذي سيصيب غيرها. تفضّل أنظمة الخليج أن تبقى الساحة خالية إلا من طبعات عربيّة ودوليّة لصحف الأمراء (وهي أيضاً تعاني من تقلّص الدعم المالي لأن المنافسة معدومة وليس هناك مَن يجاهر بمعارضة دول الخليج كما في الماضي). الجيل الجديد يتحوّل باستمرار إلى صحافة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي هي نقل مُترجم عن صحافة الغرب المنحازة. تجول في المواقع ولا ترى إلا سخرية من حاكم كوريا الشمالية، كأن الرجل هو الذي يقصف الدول العربيّة والإسلاميّة بالقنابل والصواريخ. ماذا فعل حاكم كوريا الشمالية لكم، إلا إذا كان كل أعداء الإمبرياليّة الأميركيّة هم أعداء الجيل العربي الجديد؟ غابت «السفير» لأن شعارات المرحلة تغيّرت جذريّاً. ما عاد عبد الناصر، مُلهِم صاحب «السفير»، حلماً. الجيل الجديد منشغل بما هو أهم من «القضايا العربيّة»: الشيخ محمد بن راشد يركب مترو لندن. الشيخ محمد بن راشد يداعب غادة عبد الرازق عندما صدفها في مطعم. الشيخ محمد بن راشد يمنح جوائز في مهنة الإعلام. فاز حصان الشيخ محمد بن راشد في سباق الخيل في «كنتكي دربي». الشيخ محمد بن راشد ارتدى لباس الرجل الأبيض في حفل ملكي في لندن. طبعاً، غابت «السفير». لم يعد الزمن زمانها.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)