القاهرة | في ظل أوضاع بائسة كانت تعيشها مصر على المستويات كافة، ومناخٍ يسير بالبلاد إلى الانفجار، وأمام نظام كان يعتبر المطالبة بالعدالة والحرية نوعاً من أنواع التسلية، أطلّ على المصريين الدكتور محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الحاصل على جائزة «نوبل» للسلام، عبر شبكة «سي أن أن» ليعلن أنه لا يستبعد خوض انتخابات الرئاسة في مصر خلال عام 2011.
يومها، انقلبت الدنيا في مصر رأساً على عقب، وبات تصريح البرادعي بمثابة «القشة» التي تعلق بها المصريون، وفي القلب منهم الشباب، الذين بادروا إلى التواصل معه، وشكلوا مجموعات لدعمه، فبدأ العمل على جمع توكيلات شعبية في مختلف محافظات مصر، من أجل تغيير الدستور، في سابقة لم تشهدها البلاد مصر منذ عام 1919.
يوم الجمعة التاسع عشر من شباط عام 2010، وصل البرادعي إلى مصر، لتبدأ مصر صفحة جديدة من النضال من أجل العدالة والحرية، استكمالاً لما قدمته الحركة الوطنية المصرية من نضالات متراكمة عبر سنين عدة، وأصبح البرادعي الظاهرة السياسية الأهم في مصر آنذاك.
بادر الرجل على الفور إلى إجراء لقاءات تلفزيونية، أعلن خلالها صراحةً أنه مستعد لخوض الانتخابات الرئاسية ضد حسني مبارك، وتم تشكيل «الجمعية الوطنية للتغير» برئاسته، وبمشاركة العشرات من الوطنيين المصريين، وقام بعدها بجولات ميدانية شملت القاهرة والمحافظات، لتتوالى بعدها الفعاليات والأنشطة، حتى قامت «ثورة 25 يناير»، التي يعتبر البرادعي أحد ملهميها.
لم يكن البرادعي الشخص صاحب التاريخ النضالي والسياسي، ولكن الفرصة أتته مراراً وتكراراً، لكي يكون زعيماً سياسياً وقائداً للثورة، لكنه ظل يرفضها كل مرة لأسباب جاءت خاذلة للمؤمنين به كقائد للتغيير.

بعد تنحّي مبارك
لم تكن تصرفات البرادعي على قدر المسؤولية

ليس تجنّياً على الرجل القول إنّ بداية الخذلان الحقيقي لأنصاره، الذين منحوه فرصاً عدة، كان في عدم لقائه بالمئات من المصريين، ممن ذهبوا لاستقباله في مطار القاهرة، يوم عودته، حيث خرج بسيارته مسرعاً، ومخترقاً الحشود التي انتظرته لساعات، بعد تأخر طائرته، بعدما خاضوا رحلة مليئة بالمخاطر، في ظل حملة الاعتقالات التي طاولت بعض المناصرين. هذا الموقف، تكرر في الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011، حيث لم يشارك البرادعي في يوم الغضب المصري، الذي تحوّل إلى ثورة، بسبب سفره خارج البلاد.
كثيرون اشتكوا من هذين الموقفين، بما في ذلك رفاق البرادعي في «الجمعية الوطنية للتغيير»، لكنهم تجاوزوا الأمر، من فرط الأمل والحلم.
بعد تنحي مبارك، وأثناء فترة حكم المجلس العسكري، الذي كان يماطل في اتخاذ إجراءات تسليم السلطة، لم تكن تصرفات البرادعي على قدر الثقة والمسؤولية التي أوكلها له الثوار، بل جاءت مخيبة للآمال.
خلال أحداث «محمد محمود»، في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 2011، طالب الثوار، بقلب رجل واحد، البرادعي بالمجيء إلى ميدان التحرير وتشكيل حكومة وطنية، لكنه لم يأتِ، ليعلن بعد بسنوات، في لقاء تلفزيوني، أنه خاف على البلاد من الاقتتال الشعبي، وأنه أَوصل مطالب الثوار إلى المجلس العسكري... مع العلم بأن الأمور وقتها لم تكن ملتبسة، فالجميع كان مشاركاً في ملحمة محمد محمود، في ما عدا «الإخوان المسلمون»، الذين كانوا مشغولين بترتيب الانتخابات الرئاسية، التي تجنّب البرادعي أيضاً المشاركة فيها، واضعاً شروطاً اعتبرها كثيرون غير واقعية، وكانت النتيجة مجيء «الإخوان» إلى الحكم، ليتّجه بعدها إلى خوض غمار تجربة حزبية لم يكتب لها النجاح (حزب الدستور).
ومع الإعلان الدستوري المستبد الذي أصدره الرئيس «الإخواني» محمد مرسي، والذي تسبب بانفجار شعبي أدى إلى الموجة الثورية «30 يونيو»، التي أطاحت حكم «الإخوان»، كانت الفرصة سانحة أمام البرادعي للحضور بقوة في المشهد بصفته السياسية نائباً لرئيس الجمهورية، الذي وصل إليه بدعم من الفاعلين في المشهد من أبناء «ثورة 25 يناير»، لكنه، مع أول اختبار حقيقي له كمسؤول، بعد فضّ اعتصامَي «رابعة» و«النهضة»، طار إلى فيينا في وقت حرج، تاركاً أنصاره والبلاد في حالة تخبط وغضب، تواجه تحديد مصيرها، مكتفياً فقط ببيان، على «فايسبوك» أعلن فيه انسحابه من المشهد، الذي اقتصرت مشاركته فيه بعد ذلك على تغريدات عبر حسابه الشخصي على موقع «تويتر»، جاء معظمها تعليقاً على العمليات الإرهابية، بلغة أممية تساوي بين جميع الأطراف.
مع اقتراب حلول الذكرى السادسة لـ«ثورة 25 يناير»، عاد البرادعي إلى الأضواء مرة أخرى، من خلال لقاء مع تلفزيون «العربي»، وتسريبات بثتها له أجهزة إعلامية محسوبة على النظام. لكن «عودة البرادعي» هذه المرة، جاءت على عكس ما كانت عليه في عامَي 2009 و2010... التشابه الوحيد هو فقط في أجواء الغضب التي تعيشها مصر حالياً، والتي تجعل الأذهان تستعيد أجواء عام 2010 السابق للثورة.