يكتشف محاضر مادة السينما غياب طالبته التي لا تتوقف عن طرح الأسئلة في محاضرته، فيذهب لزيارتها. يكتشف أنّها أصيبت في حادث سير، تسبّب في مكوثها في البيت. لقد أدى ذلك الغياب إلى ركود حالة الدرس مع غياب الأسئلة التي كانت الطالبة تطرحها، مما أجبره على زيارتها واستطلاع أحوالها.
على هذه الصورة، يقدّم الناقد اللبناني قاسم قاسم كتابه «جماليات السينما» (بيسان- بيروت) الذي خرج على هيئة حوار طويل حول أساسيات الفن السابع بين الأستاذ والطالبة. مع ذلك، لم يتجاهل ضرورة وضع تحديد لذلك الحوار، فلا يخرج مشتتاً مفتوحاً بلا محددات تعمل على تأطيره وحصره في نقاط واضحة. من هنا كان الافتتاح بالدلالات السينمائية والفيلم الوثائقي ودلالات اللون فيه، ومسألة الزمن الفيلمي والعوامل التي تدفع السينمائي لاختزال الزمن من عدمه، والتداخلات التي تحدث بين الأمكنة وذلك الزمان. في المقابل، تأتي جزئية «الأدب والسينما» كخاتمة لذلك الحوار، مع المرور على نماذج أدبية نجحت في قبضها على حضور جيد في تاريخ الفن السابع.

سيرغاي آيزنشتاين دفع صوب استخدام اللون على نحو أكثر فاعلية



وفي المحور الأول وانطلاقاً من حقيقة أنّ السينما «هي الفن الوحيد الذي يعبّر عن الواقع نفسه»، يقول قاسم إنّه رغم أنّ السينما تقدّم ذلك الواقع، إلا أنها لا تمثله، بل «هي صور لأشياء، لأشخاص، لحيوانات، لكنهم ليسوا هم الموجودين في الواقع».
يعرف المشاهد ذلك، لكنه يذهب للتعامل مع الحراك الدائر على الشاشة بوصفه حقيقياً. في هذا السياق، يحيلنا ذلك على الذعر الذي يحدثه مشهد تحرّك قطار سريع على الشاشة باتجاه صفوف المشاهدين في الصالة. لكن الأمر تطور لاحقاً، وعبر مراحل متلاحقة وطويلة حتى وصوله إلى نقطة حضور الصورة في الدلالات التي تسعى لتقديمها بطريقة تدفع المتلقي للتعامل معها لا على أساس كونها صورة محددة تحدث أمام عينيه، بل على أساس الفكرة التي تسعى لتوضيحها على نحو غير مباشر. ويأتي المحاضر هنا بمثال فيلم «المدرعة باتيومكين» لسيرغاي آيزنشتاين وعنصر النظارة التي تأتي مستفردة بأحد المشاهد في دلالة على غياب صاحبها إثر إشكاليات حصلت داخل سياق العمل. صورة لا يمكن أن تقول شيئاً في حال لو جاء حضورها منعزلاً عن سياقها الحاضر في الفيلم.
ويأتي ذكر المخرج الروسي سيرغاي آيزنشتاين بمثابة معبر يصلح لمرور المحاضر باتجاه دلالة اللون السينمائي، وهو المخرج الذي دفع بالحركة السينمائية صوب استخدام اللون على نحو أكثر فاعلية، وليس مجرد حضور يهدف لإنتاج بهرجة أو تطابق مع ألوان الحياة الحقيقية. عبر طريقة استخدام اللون وتوظيفه في رسائل معينة، قد يذهب الفيلم إلى غير غاياته لو تم ذلك التوظيف على نحو خاطئ أو ارتجالي. من هنا يحضر دور المصوّر مكملاً لوظيفة صاحب الفيلم الأول، مدفوعاً بقراءاته الخاصة حول دلالات اللون المُستخدم وتوظيفه على نحو مواز لفكرة العمل الرئيسة، مما يسهم في صياغة التركيز اللازم للفيلم وعدم تشظي المعنى المراد إيصاله.
خلف كل ذلك، تبدو استحالة عزل العمل السينمائي عن سياق النصوص الأدبية من بينها أمثلة سينمائية بارزة كرّست لمفهوم التزاوج الطبيعي بين الجهتين. على هذا، يأتي المرور على نماذج من ذلك الأدب مثل «الحرب والسلام»، و«ساعي البريد»، و«المريض الانكليزي» في حين حضر اسم نجيب محفوظ عربياً، مع إيضاح الفارق الأساسي بينه وبين العمل السينمائي، فالأول عمل فردي في حين لا يخرج الثاني إلا نتاجاً لعمل جماعي وإن حمل في النهاية اسم مخرج بعينه. كل ذلك مع الحق الذي يمتلكه المخرج في تعامله مع النص الأدبي على نحو متطابق تماماً من عدمه، أو اعتباره مصدراً أساسياً يمكن البناء عليه لولادة فكرة قد لا تكون ظاهرة على نحو مباشر في النص الأصلي. وقد يلزم هنا إعادة التذكير بنجيب محفوظ نفسه الذي كان من أبرز الذين اشتغلوا في كتابة السيناريو لعدد غير قليل من الأفلام المصرية، لكنه لم يشتغل نصاً معتمداً على رواية تخصه. وكان «عميد الأدب العربي» لا يتردد في إعلان عدم مسؤوليته عن الأفلام التي اعتمدت على رواياته وكان يقول: «النص السينمائي شيء، والنص الأدبي شيء آخر، ولا تصح المقارنة بينهما».