يبعثُ كتاب جوان تتر في نفس القارئ ردات تلقائية لدفع الشبهة، بدءاً من العنوان. إذا كان «الموتى يتكلمون هباءً»، فما جدوى كلامنا نحن الأحياء؟ ما الذي نفعله كي نرفع تهمة اللغو عمّا نعتقده صرخات تصل إلى العالم؟إذاً، يرمي الكاتب السوري كتابه الصادر عن «دار أبابيل» إلى المتلقي، ويبني نجاحه على الصدى البائس لموتنا المشترك، في أزمنة الهوس الجمعي لنفي الفردانية التي يتخذ الأدب منها ملجأ أخيراً، حيال الانهيارات المتتالية لكافة الحقائق المتفق عليها.

يستلهم تتر نصوصه من تفاصيل صغيرة ومهملة في حياتنا الرتيبة، فالحرب لم تعد أمراً طارئاً. باتت مفردات عاديّة مثل البيوت والعواميد والنوافذ، السكاكين والثلاجة وفناجين القهوة، الكراسي والأسرّة، قنّ الدجاج والقطط، الجدران والمقاهي والمومسات، الضحكات الواسعة، النواح، الأغاني، مفردات حارقة، بدخولها المتتالي العبثي إلى الأحداث، حيث كل مفردة منها باتت زخماً يافعاً ونضراً.
البهجة المخربة، اللبن المسكوب الذي يشكل أكبر عقد الطفولة متى ما حضرت الجدات المهووسات بالنظافة. الأرواح التي راحت تغادر العالم دون أن تُلقى عليها الصلوات، كي تفتح السماوات المتعددة أبوابها. يتعاطى جوان مع الأشياء من مبدأ إنساني، بلغةٍ شفيفة تكتنف قدراً كبيراً من الرقة. يفتح النافذة لتسعد الكائنات، مندفعاً إلى الخير وممتنعاً عنه في الوقت ذاتهِ. إنّه يمضي متفرجاً على الحياة التي تتكسر خلال سنوات الحرب، ويعيد تدوير هذه السنوات في منحى جنائزي. بالمثل، تتساوى الأمثولات، أو بمعنى آخر تنعدم، حيث كما يذكر «لا ملك سوايّ، لا متسول أيضاً». ومن مكمنه «وراء الحياة»، يهدي الكاتب نصوصهُ للأصدقاء، يجرب اقتناص شبهة تقوده إلى المتن. في الوقت ذاتهِ، احتفظت جُلّ نصوصه بعالمٍ ثري من الهوامش التي ــ في غياب المقولات الكبرى ــ تتقدم كي تصير بذاتها عنواناً عريضاً لحياة مشتهاة. هكذا، يصير الغاز الذي يكفي لصنع فنجان قهوة واحد، نوعاً من الظفر الحي باللذة. أما رفع مومس لردائها الأحمر، فهي علامة من علامات الاقتحام المرير إزاء الموت وفي وجههِ. يجيد الكاتب فن الإصغاء، وهو الفن الذي يُثقل الأدب بعاطفة تحتوي العناصر كافة، وتجعل منها جزئيات في نص أشمل، وتؤهل الكاتب لتناول اللغة بوصفها مواساة للمهزومين وشفقة لئيمة تُرمى في وجه الخراب الذي تعمم على صنوف العيش كافةً.

مفردات تشي بواقع سوريا المظلم ويومياتها الدامية

يطرح الكاتب أسئلة غاضبةً، لكنها متصالحة مع الأجوبة إلى حدٍ بعيد. يسأل ويجيب مسوّراً غضبه بنوع من العفة المدركة؛ «ماذا صنعت أيها الوقت وأنت تسرح في الغابة؟». بالتالي، يجعل من نصهِ تلك المساحة الضيقة بين الإمساك والطيران، بين الشك المُربك واليقين المحتّم، راح يسأل بنزقٍ واهنٍ، وبَعتبٍ محطّم راح يرمي الغُيّاب.
يستدعي الكاتب أمكنة عدة، على امتداد الصفحات، لا سيما أنّه اتخذ من اللغة أداة لاستحضار السنوات البعيدة، وَجرب تجريباً خطيراً، أن يجعل السرد وسيلةً للنسيان، في محاولة للتصالح مع المدن التي تهدمت للتو أو هجرها. إنّ ما كتبه لم يكن سوى حياته التي كانت تستمر في مكان بعيد، وهو يتحسسها بلغةٍ صارخة وخفرٍ كاذب. تبرز القامشلي، المدينة التي يسكنها الكاتب بين النصوص؛ ناجيةً من يوميات التفجير، ركاماً وصيحات وعويلاً وزجاجاً متطايراً وأشلاء. روائح الخبز والدماء، والفتن الآسنة، والدراجات الهوائية. أبطاله، بائع الموالح وعمال البلدية. أشخاص عاديون، يتصرفون على نحو استثنائي. يوثق جوان لحظاتهم الاستثنائية، مثل، حجي الشاب الديري، الذي أفرغ رصاصة في رأسه رفضاً للإهانة التي تعرض لها أمام الملأ. حجي كان يبيع طعامه أثناء تأدية الخدمة الإلزامية من أجل علبة تبغ كان ثمنها آنذاك 15 ليرة سوريّة.
يهدّم جوان في نصوصه ما بناه في نصوص أخرى. يطور موقفاً رافضاً من الحياة، يصرخ في وجه «الطمأنينة» التي لم تكن سوى رتابة الحرب. يفكر بمغادرة الجنديّة، على اعتبار ما من صاحب عقل يود الحياة إلا ويرحل، لا سيما بعدما حُبِس مع رفاقه خشية التحاقهم بـ «الثورة». وفي مكان آخر، يبصق في وجه من يقتلون الناس بكلامهم القذر على الشاشات ومن يقتلونهم بخلافاتهم العصبية. يسأل بلوعة، «هل من منقذ؟»، ولا راد لصراخهِ سوى «أثر الغياب». وعلى وقع هذا الأثر، كتب جوان يومياتهِ المفصلية في الجزء الأخير من الكتاب، جاعلاً اللغة عنصر إيضاح ومكاشفة، ومؤسساً العلاقات بين الأشياء على رابطة شديدة الذاتية. يتذكر ما يحلو لهُ، بالطريقة التي تحلو لهُ، سارحاً مع المقعد الخالي للفتاة التي كانت تحبهُ، ومع الطفلة الميتة على جانب السياج، ومع العاشقين الذين ركضا سوية لكنهما لم يصلا معاً، ومع الحالمين الذين لفظهم البحر، مستخدماً مفردات تشي بواقع سوريا المظلم، بيوميات هذا البلد الدامية. يركب المصائر وفق قانون الحرب غير المعقول. يجرب أن يعطي للحياة دفئاً غامراً، يجيء بهِ، من صراحة الأطفال. وهي غاية بيكاسو في الفن، يذكر جوان لنا في النهاية، الوصف المحايد والمنصف لكتابهِ، إنّه يكتب بصراحة الأطفال التي لطالما آمن بها.