شنّ الأستاذ في جامعة وهران الجزائرية رابح لونيسي، في مقال نُشر في 17 كانون الثاني/يناير الجاري في جريدة «الأخبار» بعنوان «رد على مقال مشرقي ضد البعد الأمازيغي في الجزائر»، هجوماً لاذعاً على القوميين العرب والإسلاميين في الجزائر، محملاً إياهم مسؤولية كل الاضطرابات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشهدها البلاد حالياً.
ففي رده على مقال «عيد يناير: هل يهدف إلى إفقاد الجزائر هويتها العربية؟»، كرّر السيد لونيسي، بنبرة تنمّ عن ثقة عجيبة بالنفس، «الحجة الأمازيغية» الأبرز، التي يزهو أنصارها بشعار «الجزائر الجزائرية»، إذ اتهم القوميين العرب على وجه الخصوص بسلخ الجزائر تاريخياً عن هويتها «الأمازيغية» وبزرع بذور الصراع الداخلي عبر التسبب بخلافات على أسس إثنية وعرقية. وللمفارقة، فإن الغاية من مقال «عيد يناير» لم تكن إطلاقاً خوض جدل عقيم حول الأصول الإثنية للجزائر (وهي مسألة لا تشغل أساساً سوى نفر قليل من أشباه المثقفين الذين يتاجرون بمسألة الهوية وبعض السياسيين الانتهازيين)، بل إن المقال كان يهدف إلى تسليط الضوء على استغلال مسألة الهوية كأداة في المجال السياسي. وأمام هذا التحريف في المعنى وهذه المغالطات، لا مفرّ من تقديم بعض التوضيحات للقرّاء.
أولاً، عبر اتهام القوميين العرب بإنكار «الأصول الأمازيغية» للجزائر وبتهميش الأمازيغ، الذين لا يحركهم، بحسب الكاتب، سوى مطلبهم الشرعي بالاعتراف بهويتهم، يتبيّن أن مفهوم الكاتب للهوية متحجّر ومبني على أساس إثني، في حين أن القوميين العرب لم يُعرّفوا العروبة يوماً على أنها انتماء إثني، بل على العكس، فهم يعتبرونها بمثابة ساحة تندمج فيها العناصر الإثنية بل والدينية المختلفة، التي يكون قاسمها المشترك هو الانتماء الثقافي للعالم العربي. لذا، فإن الهوية بهذا المعنى هي منتوج اجتماعي يتشكل وفقاً للتاريخ السياسي والاجتماعي للدولة، وإن هذا المفهوم الديناميكي للهوية على وجه التحديد يسمح لنا بدحض النظرة المستقاة من الأنثربيولوجيا الاستعمارية والتي يعتبر أدعياؤها أن الجزائر مبنية حول نواة هي الهوية الأمازيغية الثابتة منذ آلاف السنين في نظرهم، علماً أن هذه النظرة منفصلة تماماً عن المسارات الاجتماعية والتاريخية للبلاد. ومع أن هذه المقاربة للعروبة لا تتجاهل خصوصية الأمازيغ في الجزائر وباقي الخصائص المحلية، يسعى الخطاب الداعي إلى التقوقع في القيم البدائية والإثنية والإقليمية إلى زعزعة الثوابت الوطنية والوفاق الموروث من حرب التحرير.
ثانياً، حين تُبنى الثقافة التاريخية على ذاكرة مبتورة وشعارات جوفاء، فإنها تنتج خطاباً عاطفياً يصوّر الأمازيغ في الجزائر على أنهم كبش فداء القوميين العرب والإسلاميين، ويعتبر أن القوميين العرب والإسلاميين تناوبوا على التضحية بالأمازيغ وإرهابهم منذ الأزمة الأولى التي مرت بها البلاد في العام 1949، والتي يتم تحليل أسبابها التاريخية بشكل كاريكاتوري. وإنّ مصالي الحاج، ومن بعده أحمد بن بلا، لم يكونا في الحقيقة دمى في يد التيار القومي العربي، ولم يستسلما للضغوط لإنكار الهوية الأمازيغية للجزائر، بل إن الإصرار على انتماء الجزائر إلى الأخوّة التاريخية بين الشعوب العربية كان مبدأً غير قابل للاختزال لدى الثوريين الجزائريين واقتناعاً راسخاً يتقاسمه الجميع. وهنا ينبغي التذكير بالتاريخ الثمين الذي بدأ مع فعل المقاومة الأول للأمير عبد القادر وصولاً إلى ثورة التحرير الجزائرية في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، ومن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسسها الإمام بن باديس وصولاً إلى عملية بناء الدولة الوطنية بعد حصول الجزائر على استقلالها في العام 1962، ولا سيما خلال الأعوام التأسيسية للدولة في الفترة الممتدة بين العامين 1960 إلى 1970، مع إنجازات الرئيس هواري بومدين (من الشاوية الأمازيغ)، من دون أن ننسى الانتفاضات الفلاحية المتكررة، وخصوصاً انتفاضات العام 1871، إضافة إلى العمل الثوري لحزب «نجم شمال إفريقيا» وحزب الشعب الجزائري. وقد كان إحباط «سياسة القبائل» التي مارسها الاستعمار إحدى الثوابت الأساسية في العمل والفكر لدى جميع هؤلاء الثوريين في نضالهم ضد فرنسا الاستعمارية التي بذلت جلّ جهودها من أجل نزع الثقافة العربية عن المناطق الناطقة باللغة الأمازيغية، عبر فبركة شخصية مصطنعة لـ«الأمازيغي» الديموقراطي، العامل، الجمهوري، المنسجم مع الأفكار التنويرية، مقابل «العربي» الذي صوّره الاستعمار بطبيعة الحال على أنه مخادع وإقطاعي ومحافظ،، بحسب التحليل الدقيق للمؤرخ الأميركي هيو روبرتس. ولطالما لقي هذا المفهوم الهوياتي المبني على أسس إثنية رفضاً قاطعاً من القوميين الجزائريين، ولا سيما ذوي الأصول الأمازيغية منهم الذين جاهروا بعروبيتهم، مثل الشاعر المزابي مفدي زكريا.
ثالثاً وأخيراً، عبر طمسهم هذه الحقيقة التاريخية عمداً أو سهواً من أجل إنتاج خطاب سياسي ــ هوياتي متناقض مع الذاكرة الجماعية للجزائريين ومع مكتسبات الثورات الشعبية، يزرع منظّرو القومية الأمازيغية بذور الفتنة بأيديهم، إذ إن استغلال مسألة «الهوية» الأمازيغية وارتداداتها السياسية لا يهدف سوى إلى زعزعة الوفاق الوطني.
وختاماً، ليس القوميون العرب من يعدّ الميدان لصراع مدني جديد، بل أولئك الذين يزعمون أنهم يحملون شعار المواطنة والمساواة فيما هم في الواقع يسعون إلى إعادة إدخال الانقسامات عبر دفاعهم عن هوية إثنية حصرية فاقدة لأي منظور أو سياق تاريخي. فإقحام الهوية الأمازيغية في الحقل السياسي، سواء كنوع من الانتهازية أو جهلاً بالتاريخ، يخدم نخبة تكمن مصلحتها في الإبقاء على الجزائريين في حالة انقسام وفي منع النقاش حول الأسباب الحقيقة لجمود النظام السياسي.
*باحثة أكاديمية جزائرية