يمكن التغاضي عن غزل الكاتب جبور الدويهي (1949) بالانتداب الفرنسي. يمكن القول إن هذا «تأريخ» من وجهة نظر فئة وازنة لبنانياً. لا تاريخ واحداً للبنانيين، فما الضير أن يبتهج جزء منهم بقوافل المحتل الفرنسي. يمكن أن يكون هذا قد حدث فعلاً، ويمكن أن يكون لبنانيون قد ابتهجوا بحدوثه للخلاص من العثمانيين في أيامهم الأخيرة.
التاريخ هو التاريخ، وما حدث هو ما حدث، والرواية هي الرواية. يحمل الراوي مشعلاً ويضيء على جانبٍ من قصص العالم الكثيرة. ويجب أن يكون أميناً، ويمكنه أن لا يكون أميناً أيضاً. فالرواية رواية وليست تاريخاً بحد ذاتها.
في روايته الجديدة «طُبع في بيروت» (دار الساقي)، يؤرخ جبّور الدويهي، أو يحاول أن يؤرخ. سيرة مسبوغة بعناية لعائلة حلبية، شاركت في نشأة العاصمة وصعودها، بعدما تطبعت بطباعها، وكانت جزءاً من طباعتها. ويجب أن نتذكر دائماً أنها حلبية، حتى عندما صار آخر أحفادها «عبد الله»، بيروتياً في غاية البيروتية. بعنايته المعهودة وإصراره على أهمية الحبكة وترابطها، كما هو معروف عنه، يصيغ الدويهي حكاية الأجيال البيروتية في مطبعتها ــ معقِلها، ويخرج بخلاصات شخصية من تاريخ روايته، لا يحتاج قارئها إلى عناء تفكيكها، فالكاتب واضح في ما يريد قوله.

صدمة «دلالية» تحدثها قراءة كاتب لبناني يسجّل موقفاً ضدّ القادمين من الأطراف إلى المدينة
في «طُبع في بيروت»، أولى هذه الخلاصات: اليسوعيون هم ضحية الحلبيّ (من حلب) الذي سرق مطبعتهم «عينك بنت عينك» وفي «ليلة ما فيها ضو قمر». ثاني الخلاصات: الحلبي صار بيروتياً. وهذا مهم في تركيبة المدينة وهويتها. ثالث الخلاصات: المسيحي البيروتي جاهد وكافح للحفاظ على عيشٍ وتعايش وعلى أسطورة اسمها الدولة، وابن الحلواني السُني البيروتي عمِل لديه وكان أميناً. كان كل شيء على ما يرام حتى ظهر «الشيطان». حتى منتصف الرواية، يتقاطع كل شيء مع سردية الراحل غسان تويني عن الحرب الأهلية اللبنانية التي تستغرب نشوء الأخيرة من أساسها، وتحمل مسؤوليتها إلى آخرين. لا يتورط الدويهي في إطلاق مواقف عن «الآخرين» الذين نغصوا على المدينة حياتها، وعلى الذين سلبوا بطل قصته الهلامي «فريد أبو شعر» ذاكرته وأجداده، وأبقوا له موهبة لا يعترف بها أحد. يكتفي بسردٍ مكثف، أدواته الجمل الطويلة التي تستعير من التاريخ أحداثه، ومكوناته شذرات من حكايا بيروتية غير مكتملة. وفي أي حال، هذا ما يحدث في الروايات الجيدة، وليس معياراً لجودتها أن تكون موغلة في التاريخ. ما يجعلها سيئة هو أن تقذف فجأة سيلاً من المواقف الإطلاقية التي لا تخلو من التعسف.
لا سجال في أهمية الدويهي كراوٍ وقاص لبناني محترف. وبحرفيته هذه المعهودة، يرمي أحد أبطال روايته «حسين الصادق» في منتصف القصة. يتوقف السرد والتاريخ عند «الشيطان». مزوّر الأموال. التاجر. الذي أشعل حرباً في تموز 2006، «قُتِل فيها من قُتِل»، بينما تهرّب أوراق «اليورو» من لبنان إلى أفريقيا وإلى أميركا اللاتينية. هذه هي قراءة الدويهي لحزب كاديما ولإيهود أولمرت. ضحِك عليهم «حسين الصادق». ويصير البلد (لبنان) كله ـــ الذي هو المطبعة سيميائياً في رواية الدويهي ـــ في خِدمة «حسين الصادق». «حسين الصادق» بما يمثله من إيحاء سياسي وسوسيولوجي، هو «نقطة تحول» صادمة لقارئ الرواية. والقول إنّ «حسين الصادق» هو «حزب الله» لا مانع فيه بحد ذاته، وهذه ليست مشكلة. فليحمّل الدويهي روايته بالسياسة على متن رخو. المشكلة أن المتن كله يقوم على طوائف، والسرديات كلها تتناول طوائف. و«حسين الصادق»، هو طائفة بأسرها، وهذا لا يخلو من تعسف، لن يسعف تبريره. نحن أمام صدمة «دلالية» تحدثها قراءة كاتب لبناني يسجّل موقفاً ميشال شيحاوياً، ضدّ القادمين من الأطراف إلى المدينة، وإلى عاصمة «لبنان الكبير» في الرواية. موقف ضد الشيعة، موقف على الموضة الآن.
بالتأكيد، لم يقم الدويهي حساباً لنزهات أومبرتو ايكو السردية، ولم يكترث كثيراً لمعنى الدلالة والرمز في الرواية. وما هو واضح أيضاً، أن سرده الناشف والمشبع بمحاولات التأريخ في بدايات الرواية، يجب أن يعرّض لتدقيق علمي مِن أول حرف وآخره. «بحار الأنوار» كتاب إشكالي عند الشيعة. هل يعرف الدويهي ذلك أم لا، لأن ذلك لا يخدم السياق الذي استخدمه فيه عرضاً. لقد أضافه الصفويون. ولا نعرف إن كان الشيعة كلهم «صفويين»، ولكن في «طُبع في بيروت»، الشيعة كلهم «حسين الصادق».
«حسين الصادق»، شخصية هوليودية، على طريقة «سيريانا» لجورج كلوني في بُعدها البصري، وعلى طريقة فارس سعيد في بُعدها النظري. بيده خاتم فضة، في وسطه حجر من الزبرجد الأخضر، ويتدلى من عنقه سلسال في طرفه سيف. وطبعاً هو «حاج». وأبو حسين، وأبو علي. يتاجر بالألماس في أفريقيا، ولا يروقه المسيحي العراقي من الموصل، ويفضّل عليه أبو علي. أبو علي وأبو حسين. ما هذه الكليشيهات؟ هل هذه «دراما لبنانية» أم ماذا؟ الخاتم والسيف والصادق. هذه هي دلالات الدويهي الشكلية إلى «الشيعي المعاصر» في رواية استندت في أساسها إلى عرض صورة للطوائف اللبنانية من خلال مؤسسات أسسها أفرادها. أما دلالته الأخرى، فتطلب قراءة الصادق ودوره في المجتمع البيروتي الذي كان قائماً، ونجا من الحرب، فجاء الصادق ومن خلفه، و«ركبوا» حرباً مع إسرائيل. وهذه الخِفة في الطرح تروق كثيرين، و«ع الموضة». وقد تجلب الجوائز. هذه الخِفة الغريبة في تحويل طائفة بأسرها إلى صورة عن «حزب الله»، سواء اتفقت معه أو عارضته، ثم تحويل الحزب نفسه إلى «شيطان»، وتالياً، تحويل الجميع إلى شياطين. يا للخِفة.
صحيح أنّ الراوي اللبناني يقفز قفزةً شجاعة عن الحرب، وما قبلها وفيها من نسيج محكم الوشائج ــ لا عن المجتمع وصيرورته ــ عندما يسمّي الناس بأسمائها، ولا يلتف على الطوائف من خلفها ويشهر لسانه كالأهبل. ليس حدثاً سيئاً في الرواية أن يكون الماروني مارونياً والسني سنياً، ويحمل البطل اسماً متداولاً في البيئة، لا مفبركاً ومركباً على طريقة الدراما الهزيلة الدارجة. على العكس تماماً، هذه شجاعة وإن كانت في أصلها ضرورة إن كان الراوي مهووساً بالتأريخ كما هي حال الدويهي، وحارساً للرواية من أي نزعات شِعرية. وحرّية الراوي وخياراته ليست مبحثاً بحدِ ذاتها، طالما أنها مشروطة بشرطٍ وحيد: حريّة القارئ هو الآخر. لا يجب أن يشعر القارئ أنه يتعرض لخدعة في غاية الخِفة، وأن النص الذي أمامه يُزيّف ويختزِل ويمضي كما لو أن أحداً لن يحاسبه، ولو بلغ مبلغ التحريض. في حالة «طُبع في بيروت»، نحن أمام نصٍ يشارك في لعبةِ الطوائف والطائفية وعلى قواعدها، وهذه ليست مجرد هفوة. نحن أمام خطأ كبير.
في نهاية القرن التاسع العشر وحتى منتصف القرن العشرين، وبينهما قضية دريفوس، التي راجت خلالها معاداة السامية في الأدب والصحافة الفرنسيين، وساد التنميط ضد اليهود في الأدب. في كارتون القرن التاسع عشر وتقريباً في أدبهِ الأوروبي، كان اليهودي ذا صورة محددة تقريباً. كان سميناً وذا خصائص خلقية محددة. الشعر المجعّد الطويل، الأنف الأفطس الكبير، الشفتان السميكتان، إضافة إلى عيون واسعة وداكنة بحيث تتدلى منها جفون صاحبها. وبطبيعة الحال، كدلالة حاسمة، كان يضاف إلى الرسم القلنسوة المعروفة بالـ «كيباه». ويبدو أننا الآن، في «طُبع في بيروت»، أمام ولادة «كارتون» شيعي، يستقي هيئته من كليشيهات سوسيولوجية رخيصة. الزبرجد الأخضر، ونحتاج إلى معجم لفهم الزبرجد وحده، والسلسلة التي يتدلى منها السيف، وطبعاً، التجارة في أفريقيا والنصب والاحتيال. يا له من درك، يا لها من خيبة أمل!