الحرب البحريّة، تاريخيّاً، هي ميدانٌ حصري للقوى العظمى، بعيدٌ عن خيال ومتناول دول الجنوب الفقيرة. في وسعك، ولو كنت بلداً صغيراً، أن تقتني قطعاً بحريّة وخفر سواحل وأن تضع عليها علمك. ولكنّ المنافسة على تزعّم المحيطات في عمقها، بعيداً آلاف الكيلومترات عن اليابسة، والسيطرة على ثلثي مساحة كوكب الأرض، تستلزم كلفةً وموارد لا تتوفّر تقليدياً الّا لحفنة من الدّول أو لقوّة عظمى وحيدة، كما هي الحال اليوم (من هنا كنت دائماً أعرف، في قرارة نفسي، أنّني لو ولدت في بلدٍ حقيقيٍ وذي شأن، لكنت الآن على متن غوّاصة).
البحريّة ــــ لأسباب لا تحتاج لتوضيح ــــ هي عالمٌ خاصّ مغلقٌ على نفسه، بتقاليده وتاريخه وتقنياته، وحتّى في نظرته المختلفة الى الجغرافيا والزّمن. ضمن الجّيوش نفسها ــــ الجيش الأميركي مثالاً ــــ هناك نفورٌ معروف ومتبادل بين البحريّة من جهة، وباقي فروع الجيش مجتمعةً من جهة أخرى. والضبّاط الأميركيّون في أسلحة البرّ والجوّ والمارينز لا يفهمون مبرّراً للميزانيات الهائلة التي تستحوذ عليها البحريّة، ويستهجنون ثقافة ضبّاطها واعتدادهم بأنفسهم و»النادي الخاص» الذي كوّنوه، اضافة الى تقاليدهم «الغريبة» ولباسهم ورسميّتهم، فيما هم لا يرون في سفن البحريّة الّا شاحنات نقلٍ، باهظة التكلفة لسببٍ ما، عملها نقل جنودهم ومعدّاتهم من مكانٍ الى آخر. قادة البحريّة، على الضفة الثانية، يقولون بثقة إنّهم هم الأساس، وقد احترفوا (ضمن مناوشات التنافس على ميزانية الدّفاع في واشنطن) شرح وتفصيل لماذا هم عماد الامبراطوريّة الأميركيّة وذراعها في العالم، وأنّ استثمار كلّ هذه المليارات في سلاح البحر ليس أمراً مبرّراً فحسب، بل هو قليل.

كلفة الهيمنة

في الحقيقة، فإنّ أوّل كمبيوترٍ «عمليّ» في العالم قد تمّ بناؤه لكي يركّب على بوارج «دريدنوت» البريطانيّة في أوائل القرن العشرين (فئة «دريدنوت» الأثقل كانت، في ذلك السياق وبالنسبة الى الامبراطورية البريطانية، رمزاً يوازي حاملة الطائرات الأميركية اليوم). في الحرب البحريّة، التصويب هو مسألة معقّدة للغاية، بخاصّة مع ظهور المدافع ذات الأعيرة الهائلة التي تركّب على البوارج، ويقارب مداها العشرين كيلومتراً (من مميّزات السّفن هو انّك تقدر أن تحمّلها مدافع ــــ وصواريخ ورادارات - ذات حجمٍ ووزنٍ لا يمكن تشغيله وتحريكه على البرّ). في البحر انت تتحرّك على الدّوام، والهدف يتحرّك ايضاً، وهناك أمواجٌ ترفعك وتخفضك، وتقدير المسافة بدقّة عبر الماء لم يكن أمراً هيّنا، وعليك أن تحتسب ايضاً سرعة الرياح ومدّة طيران القذيفة، الخ... من الممكن أن تحصل على هذه المعلومات كلّها وأن تضعها في معادلة، ولكن من شبه المستحيل على أيّ بشريّ (ونحن هنا نتكلّم على عساكر) أن يحلّ هذه المعادلة على ورقةٍ في ثوانٍ قبل أن يكون مكان الهدف قد تغيّر.
لهذا السّبب جاء الكمبيوتر الأوّل، الـ»دومارسك» عام 1902، وهو كان ــــ ككل الحواسيب في بداية عصرها ــــ ميكانيكياً يزن أطناناً، بمعنى أنّه يحوّل معلومات حسابية الى حركات ميكانيكيّة باستخدام نظام كراتٍ حديديّة أو تروسٍ، وهي مرتّبة ومصمّمة لحلّ معادلة محدّدة. فتُدخل الى «حاسوب» البارجة معلومات عن السرعة واتجاه الهدف والمدى وغيرها ليعطيك، بشكلٍ شبه لحظي، رقماً هو «حلٌّ ناريّ»، أي الموقع الذي سيكون فيه هدفك بعد عشر ثوان (هو فعلياً، في نموذجه الأوّل، كان يعطي رقمين يمثّلان وتيرة حركة الهدف بالنسبة اليك في الاتجاهين: كم يبتعد عنك أو يقترب في الدقيقة وكم يذهب شرقاً أو غرباً بالنسبة اليك في الدقيقة، وهذا يسمح بتنسيق مدافع السفينة لتضرب جميعها على الموقع الصحيح في لحظةٍ محدّدة سلفاً). التنافس البحري قد جعل من الأساطيل مرتعاً للإختراعات التكنولوجية والاستثمار المكلف والإنشاءات الهائلة، حتّى أنّ أحد اسباب انطفاء الامبراطورية البريطانية، بحسب العديد من المؤرخين، هو أنّ كلفة الحفاظ على الهيمنة البحرية كانت تتزايد بوتيرة أسرع من نموّ اقتصاد الامبراطورية وعائداتها.

التفوّق الأميركي

الهدف هنا هو ليس التعظيم من القوّة الأميركيّة، ولكن الحقيقة الموضوعيّة هي أنّ الأسطول الأميركي متفوّقٌ، حجماً ونوعاً وعدداً، على أيّ اسطولٍ آخر في العالم بشكلٍ يصعب شرحه. الجيش الأميركي وسلاح الطيران قد يتفوّقان على باقي الجيوش ولكن، في البحر، فإّنّ المسألة محسومة لصالح اميركا وبمسافةٍ شاسعة. حاملة الطائرات أصبحت رمزاً للقوّة الأميركيّة: سفنٌ لا مقابل لها في العالم وتفوق إزاحتها المئة ألف طن، وهناك عشرٌ منها، وليس واحدةً أو اثنتين (في الواقع، تمّ تمرير قانون أميركي منذ عقود يُجبر القوى المسلّحة، بغض النظر عن التكلفة والظروف الأمنية والسياسية، على أن تحتفظ بعشر حاملاتٍ عاملة على الأقلّ في أيّ وقت). ولكن، حتّى نعطي مثالاً، هناك فئةٌ كاملة من السّفن لدى أميركا، بالعدد نفسه، لو شاهدها أيّ انسانٍ غير مختصّ فهو سيحكم فوراً بأنّها حاملات طائرات، وسيكون محقّاً. هي لا تسمّى رسمياً «حاملات طائرات»، بل «سفن هجوم برمائي» أو «حاملات حوامات» ولكنها فعلياً حاملات طائرات، وزنها يقارب الحاملات الأوروبية والروسية (44 ألف طن)، والنسخة الأخيرة منها ــــ فئة «أميركا» ــــ قادرة على حمل سربين من طائرات «اف-35» وشنّ حروبٍ كاملة، كإخوتها الأكبر منها. المسألة لا تتوقّف على القطع البحرية والتكنولوجيا، فلا يمكن فهم أساس القوة البحرية الأميركية من دون نظرةٍ الى الخارطة العالمية، وتفحّص البنية التحتية الهائلة، من قواعد ومطارات ومحطّات تذخير منتشرة في كلّ أرجاء الدنيا، والتي تخدم هذه الآلة الحربية الهائلة وتعطيها منصّةً هجومية في أيّ موقع.
قد يكون صحيحاً أن دولاً كاليابان والصين وكوريا قد توصّلت الى بناء مدمّرات، سفن القتال الأساسية التي تقوم بمهام الحماية والدفاع الجوي والضربات الصاروخية، توازي في قدراتها وتقنياتها تلك التي تصنعها أميركا؛ ولكن هذه الدّول ــــ مجتمعة ــــ لا تملك، كالأسطول الأميركي، أكثر من مئة مدمّرة! البحرية الأميركية تمتلك، فعلياً، سلاح جوّ خاصّاً بها، وجيشاً صغيراً خاصّاً بها، وتعمل في شبه اكتفاء واستقلالية. لو جمعنا، كتمرينٍ نظري، طائرات البحرية التي تجهّز حاملات الطائرات الأميركية فحسب، طائرات القتال والاستطلاع والحرب الالكترونية، لشكّلت أقوى سلاح جوّ في العالم بعد سلاح الجوّ الأميركي. اضافة الى ذلك، فإنّ كامل أسطول الغوّاصات الأميركية اليوم يستخدم الدّفع النووي، ويكلّف أصغر نماذجها مليارات الدولارات.

الحرب القادمة؟

الاتّحاد السوفياتي، على طول الحرب الباردة، جرّب فحسب أن يبني اسطولاً دفاعياً، لا يعتمد على القطع البحريّة الكثيرة والكبيرة بل على الغوّاصات التي تتصيّد السّفن، وتسمح بحماية محيط الاتّحاد وحدوده البحرية، وتصعّب إقامة حصارٍ عليه (المهمّة الثانية للغوّاصات السوفياتية، كما مع كلّ القوى النووية، هو حمل الصواريخ الذريّة لتكون احتياطاً «خفياً» خارج الحدود، يمكّنك من ضرب عدوّك وإبادته حتّى لو قام بضرب بلادك أوّلاً وتدميرها بالكامل). وقد اتّخذ الاتّحاد السوفياتي القرار بالتّحوّل الى أسطولٍ يقاتل في عمق المحيطات، ويبنى حول مجموعات حاملات طائراتٍ وسفنٍ ضخمةٍ مدجّجة، في اسوأ لحظةٍ ممكنة، قبل عقدٍ من انهيار الاتّحاد، الذي سقط بينما أكثر هذه السّفن ما تزال في طور البناء، ولا امكانية لدى روسيا لاستكمال مشروعٍ بهذا الطّموح. هذا من الأسباب التي تجعل روسيا، الى اليوم، تعاني من التخلّف في المجال البحري، وتجاهد لبناء جيلٍ جديدٍ من سفن السطح يناسب حاجاتها وله مكانٌ على المستوى العالمي.
ولكنّ المنافس الجديد اليوم هو الصّين. يجمع الخبراء على أنّ التحوّل الأساسي في الجيش الأحمر خلال العقود الماضية (والذي تمّت ترجمته في سلسلة اصلاحات تطال العقيدة العسكرية والتنظيم وبنية الجيش الصيني) كان في نقل الإهتمام والأولوية من سلاح البرّ، الذي كان يستوعب في الماضي أكثر الموارد والميزانيات ولديه الصوت السياسي الأعلى، الى سلاحي البحرية والجوّ. حين كانت الصين دولة فقيرة، كانت الاستراتيجية العسكرية لماو تتلخّص في تهيئة جيشٍ هائلٍ من المشاة، يقدر على خوض حرب عصاباتٍ مكلفة ضدّ \خصمٍ متفوّق في التكنولوجيا، ما يجعل من غزو الصين فكرةً محرّمة على أيّ كان (سواء أميركا أو الاتّحاد السوفياتي). في العقدين الماضيين، تغيّرت الظروف، وبدأت الصين بالنّظر صوب البحر، وتحوّل همّها الأمني من مقاومة غزوٍ الى منعه من التحقّق، وأصبح الميدان الأساسي للمعركة «المحتملة» هو بحر الصين الجنوبي، حيث تزنّر أميركا الصّين بسلسلة من القواعد، وخلفه نظامٍ للهيمنة البحرية بنته واشنطن بعد الحرب الكورية، يمتدّ من دييغو غارسيا الى جزيرة غوام، ومن اوكيناوا اليابانية ـــــ على طول المحيط الهادىء ــــ الى سياتل على السّاحل الأميركي. الصّين، من جهةٍ أخرى، قرّرت أن تبني قوّةً قادرة ــــ عند الضرورة ــــ على كسر الحصار ومنع الولايات المتّحدة، في ساعة الخلاف، من اعتراض تجارتها وخنقها. والصّين وحدها، دون باقي دول العالم، تملك الموارد اللازمة لطموحٍ من هذا النّوع (يتبع).