لم تكن المحاولة الانقلابية الفاشلة على نظام رجب طيب إردوغان سوى تعبير عن مسار تصاعدي لصراع مرير بين «أخوين»، جمعتهما النزعة الإسلامية المحافظة، قبل أن تفرّقهما لعنة الحكم، في إطار ثلاثية: التنافس والخيانة والانتقام.
منذ سنوات، غاب واحد من أبرز المصطلحات السياسية في أدبيات «حزب العدالة والتنمية»، وهو «الدولة العميقة»، والمقصود بها دولة العسكر الأتاتوركية، ليحل مكانه مصطلح آخر ظل هلامياً حتى الأمس القريب، قبل اتضاح بعض من معالمه، وهو «الدولة الموازية»، والمقصود بها تلك الشبكة المشفرة التي تدور حول الداعية الإسلامي فتح الله غولن.
ولعلّ أهمية الصراع الدائر حالياً بين الإردوغانية والغولنية، والتي بلغت مستوى هستيرياً، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، تكمن في أنه يكاد يمثل الحرب الفعلية الأولى للجمهورية الدينية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وهي تتجاوز، بطبيعة الحال، التناقضات الفكرية بين «السلطان» وبين «الخوجة» الذي تبنى شعارات الصوفية الجديدة في عالم ما بعد ١١ أيلول، وفي القلب منها حوار الأديان ــ العبارة السحرية التي تدغدغ الغرب.
ويستعيد فتح الله غولن الإرث الروحي لسعيد النورسي (1877 ــ 1960)، وهو مفكر صوفي من أصل كردي، كان يعتبر أن هناك ثلاثة أعداء للإنسانية: الجهل، الفقر والتفرّق، لكنه يضفي على هذا الإرث طابعاً حداثياً، بما يلائم الرأسمالية بشكلها المعولم، إذ يعتبر أن قواعد الشريعة الإسلامية تستند في المقام الأول إلى خصوصية الفرد، والديموقراطية، والليبرالية الاقتصادية، مع الإبقاء على الطابع المحافظ للمجتمع.

فرّق الحكم بين إردوغان
وغولن في إطار ثلاثيّة التنافس والخيانة والانتقام

بذلك، وضع غولن نفسه في موقع المنافسة مع حركة «ملي غوروش» التي أسسها نجم الدين أربكان، القريب من جماعة «الإخوان المسلمين» ورئيس أول حكومة إسلامية في (حزيران 1996 ــ حزيران 1997)، والأب الروحي لرجب طيب إردوغان.
ولعلّ تلك المنافسة شكلت البداية الفعلية للتوجس بين إردوغان وغولن، لكنها لم تصل إلى حد الصراع، ولا سيما أن فشل التجربة الأربكانية جعلت الهدف الأساسي للأول تمكين «حزب العدالة والتنمية» من الوصول الى الحكم، عبر حشد كل القوى الإسلامية المناوئة للأتاتوركية، بما في ذلك الغولنيون.
وبرغم الود الظاهر بين إردوغان وغولن في مرحلة التمكين تلك، فإن وصول «العدالة والتنمية» إلى الحكم، والسياسات التي انتهجها، غداة المراجعة السياسية والفكرية لتجربة أربكان، جعلت التيار الإسلامي في تركيا متقاسماً الأفكار الحداثوية نفسها، ومتنازعاً في الوقت نفسه في السيطرة على تركيا سياسياً واجتماعياً.
وربما وفر انشغال إردوغان بصداع الدولة الأتاتوركية، وفي القلب منها المؤسسة العسكرية، وكذلك بالحالة الكردية وتعقيداتها، الفرصة لغولن ليواصل مد جذور حركته داخل المجتمع ومؤسسات الدولة التركية، ليشكل تدريجياً «كياناً موازياً»، مع العلم بأن هذا الكيان ليس وليد السنوات الخمس عشرة الماضية، بل تعود جذوره الى نحو أربعين عاماً، كما صرح بذلك صراحة نائب رئيس الوزراء التركي نورالدين شانكلي، في معرض تبريره للإجراءات القمعية التي تلت انقلاب تموز الماضي.
وتتحرك جماعة غولن في أكثر من اتجاه، وتصب اهتمامها على الجمعيات بمختلف أشكالها، في حين تمتد فروعها إلى قطاعات عدّة، أبرزها الأعمال والإعلام. ولا يقتصر نشاطها على الداخل التركي فحسب، بل لها فروع ومرافق خدماتية في الكثير من الدول العربية. وفي مصر مثلاً، نجحت حركة «الخدمة» التابعة لغولن في إقامة شبكة نفوذ ضخمة شملت مؤسسات اجتماعية وثقافية وتعليمية داخل البلاد.
وبرغم تشعّب نشاطها، إلا أنها تتسم بوحدة صلبة تستند تنظيمياً الى هيكلية مركزية هرمية على رأسها غولن نفسه، ويلتزم المنتمون إليها في معظم الأحيان بـ«التقية»، ما سهّل في حقب متعددة عملية تغلغل شبكاتها داخل الدولة، وتسلّلها المنهجي داخل الإدارة. وكما قال رئيس تحرير «حرييت دايلي نيوز»، مراد يتكين، في مقال أخير، فإنه بعد محاولة الانقلاب «كان هناك نظرة في أنقرة إلى أن هناك ثلاثة مصادر تهديد لحياة الأتراك وللنظام: الأول هو اتحاد العمال الكردستاني، والثاني هو داعش، أما الثالث فكان الشبكة السرية لفتح الله غولن. برغم ذلك، اثنان منها كانا يعتبران تهديداً وجودياً لتركيا: العمال الكردستاني وجماعة غولن، بينما كان يُنظر إلى داعش على أنه تهديد إرهابي كبير فقط».
كل ذلك يبدو كفيلاً لتفسير كيف أن الغولنية تحولت الى رُهاب مزمن في دولة الرعب الإردوغانية.
(الأخبار)