بمعزلٍ عن الخطاب البليد الذي ينكر المحرقة بسذاجة، لافتقاره إلى أدوات منهجية تقود إلى تفسيرها، فإن زيغموند بومان، الذي يحسب واحداً من ضحايا الجريمة، ثار على الخطاب النقيض الذي يقوم على تأليه حقبة «ما بعد المحرقة». اقترح عالم الاجتماع البولندي المعرفة ولم يقترح شيئاً آخر. ولذلك، تركزت جهوده في كتابه «الحداثة والهولوكوست» على قراءة الحدث النازي ابتسمولوجياً، من دون توابل العاطفة والندم الأوروبيين. الندم الأوروبي، الذي يتنصل من المحرقة، كما لو أنها لم تكن حصيلة مشروع الحداثة الغربية، وكما لو أن هذا المشروع ليس مسؤولاً عن نتائجه. التفسير الغربي للمحرقة حسب بومان، هو تبسيطي، يقوم على ابتزاز يهدف لتبرئة العقلانية الجافة التي تطورت في إطار كرونولوجي طويل.
هذه العقلانية، برأي بومان، هي عقلانية بلا أخلاق، أو بلا وظيفة أخلاقية، وهذا ما شكّل وعاءً للنازية في الوعاء الأوروبي الكبير. هكذا حدثت المحرقة، وهذه هي دلالات وقوعها: انهيار مشروع الحداثة الغربي. بطبيعة الحال، ليس زيغموند بومان متفرداً في طروحاته، لكن ما يميّزه بالضبط هو قدرته في الربط بين مروحة واسعة من قضايا الحداثة وتأطيرها سوسيولوجياً. ولكن بشكلٍ عام، قد يتقاطع مع حنا أرندت، التي فككت «قضية أيخمان»، عندما يشير بوضوحٍ تام إلى أن العقل الغربي، في مختلف تجلياته الاجتماعية، أي الفرد بما هو فرد، والفرد بما هو فرد في مؤسسة، والمؤسسة بما هي مجموعة أفراد، ساير السُلطة، وكان هو السُلطة، عندما نحى أخلاقه جانباً. ولم يكن خياره بتنحية الأخلاق خياراً طوعياً يرتكز إلى حرية بيداغوجية، بل كان ثمرة العقلانية الأوروبية، في زمانٍ كان المجتمع فيه مقياساً وحيداً ونهائياً لما هو «ليس أخلاقياً». وفي رفضه لهذا «الكوجيتو» الأوروبي، قد يتقاطع بومان أيضاً مع ميشال فوكو، الذي يميّز بين نوعين من الأخلاق. النوع الأول، هو أخلاق سائدة، أو أخلاق متوارثة، لكن هذا ليس مهماً، بقدر ما أن هذه الأخلاق هي «ضوابط» لا يمكن الالتفاف عليها، أو التشكيك بها. والنوع الثاني، هو الأخلاق المخترعة. تخطى فوكو مرحلة التفكيك، وخاض في رحلةٍ خاصة به أسماها «تقنيات الذات». ولكن بومان أنفق وقتاً للتخصص في العلاقة بين الأخلاق والحداثة، والحداثة والهولوكوست، بوصف الثانية منجزاً قطعياً للأولى، ما يضع «الحدث النازي» في أوروبا ومثيله الصهيوني في فلسطين على أرضيةٍ واحدة، بحيث يلتقيان في جوهرٍ يقوم على الإبادة، ويستويان على «عقلانية»، تفسّر أوروبا من خلالها ندم الجريمة النازية الأولى بأنه مسوغ للجريمة الصهيونية اللاحقة.

نمط الرأسمالي انعكس
بشكل جلي في حالة مواقع التواصل الاجتماعي

هكذا، وفي إحدى خلاصاته، لا يوارب بومان حين يعلن بأنه يتوجب على أوروبا «إن أرادت النجاة من أخطائها المعرفية إعادة النظر في الخطاب السوسيولوجي المُعرِّفِ للمبادئ الأخلاقية». وكخلاصة جديدة، برأي البولندي التائه، الهولوكوست ليست سوى البداية. بداية التحول، من إنسان يدور حوله العالم، إلى عالمِ معادٍ للإنسان. إنها أول مشروع متكامل للإبادة ولكنه ليس الأخير. فالرجل الذي يُنسب إليه مصطلح «ما بعد الحداثة»، لا يعتبر السير إلى الحضارة إنجازاً فريداً وحاسماً، بل يعتبره مسألة شائكة قابلة للتطور والنمو، ولا رابحين ولا خاسرين فيه، ولا بداية، ولا نهاية. إنه سير إلى «الرجاء» أو إلى «الأمل»، أكثر من أنه سير إلى الحضارة. الحضارة بتعريفها المادي مجرد أسطورة، ذريعة لأسطرة المجتمع وتسويغ رأسماليته. وبتعريفها الواقعي، اليوم، هي حضارة الاستهلاك، التي تعزز الرغبة بالهرب والإفلات من هيمنة الاقتصاد، إلى مجموعة أوهام، تتفاوت بين الفردية والحرية المجرّدة وتصل أحياناً إلى وهمٍ كبير هو الترف. في «الحداثة السائلة»، لا يقول بومان ذلك بوضوح، لكنه يلمح تقريباً إلى أنّ مشروع الإبادة مستمر، وآخذ في التطور والتراكم، تراكم الآمال الخائبة، في مجتمعات يحرسها الاستهلاك، كضمانة وحيدة للحفاظ على مجتمع يقوم حوالها. ولسيرة الفردانية والتفرد، فإن فردانية بومان تتمثل في اجتراحه مصطلح «الحداثة السائلة»، وشرح آلية عملها على نحوٍ مكثف، على تعزيز النزعات الفردية في مسارات عدة، وفي الوقت ذاته الإصرار على وجود «مجتمع»، كقالب رمزي، يحتوي هذا التشكّل الجديد: «فالحداثة تستبدل قيم التبعية المحددة للمكانة الاجتماعية بحرية الإرادة وتقرير المصير الواجب الذي يُلزم صاحبه».
لم ينف بومان يوماً أنه كان شيوعياً. لقد ولد في 1925، وتنقل بين بولندا والاتحاد السوفياتي، وله مشكلة طويلة مع النظام الشيوعي البولندي. غير أنه غادر «ماركسية الصراخ» إلى «ماركسية المنهج»، وكان متشائماً دائماً. ذلك النوع من التشاؤم المنهجي، الذي كانت آخر أبرز محطاته في حياة المفكّر «الثورة النيوليبرالية» التي بدأت في أوائل الثمانينيات. يجمع كثير من المفكرين اليساريين على أن فترة التسعينيات هي فترة صعودها القصوى. إنها الفترة التي تحول فيها العالم من الرأسمالية الثقيلة إلى الرأسمالية الساذجة. وإن كان شارحو بومان يفسرون هذه الرأسمالية بسرعة التهامها للإنسان، في وظيفته وفي حيّزه ضمن المكان العام، وفي موقعه في العالم، فإن نظريات تملك من المرونة ما يكفيها لمساوقة نظريات اقتصادية والتداخل معها، رغم طبيعتها الاجتماعية الصرفة. الرأسمالية «المعاصرة» التي يتناولها بومان، يمكن النظر إليها في تركيا بعد «الثورة» السورية وتداعياتها أخيراً، أو في كوبا آخر عشر سنوات، وفي أماكن أخيرة من العالم. رأسمالية Short term تتناسل بسرعةٍ فائقة، وإن كنا حسب بومان ما زلنا نتبع المبادئ التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى. حدثت تغيرات في العالم، لكن العالم انتهى، لا يوجد المزيد من الأراضي. وهذا، بطريقةٍ ما، يسهّل التناسل الرأسمالي بأنماطه المتفاوتة والمختلفة. ليس لدى بومان ما يخيفه، ولا ما يخفيه. الإبادة مستمرة لأنه لا تغيير في المنهج. في مقابلةٍ مع «بوليتيكا» البولندية، اعتبر أن الهوية لم تعد «ماهية»، أو مكوّناً أنتروبولوجياً جامعاً لمكونات عدة، بل أصبحت «وظيفة»: صناعة المجتمع. وهذا ما يرفضه بومان تماماً، فالمجتمعات «ديكارتية» بطبعها، تكون أو لا تكون. ومن هنا يأتي رفضه واستهزاؤه بوظيفة «مواقع التواصل الاجتماعي»، الفخ المنمق الذي يضحك فيه المستهلكون على أنفسهم ويصدقون خدعة «التحكم».
يقول بومان: «الفارق بين المجتمع ومواقع التواصل هو أنك من تنتمي للمجتمع، لكن مواقع التواصل هي من تنتمى إليك، أنت تشعر بالتحكم، يمكن أن تضيف أصدقاء أو تحذفهم إن أردت، تتحكم في الأشخاص المهمين الذين تتصل بهم. الناس تحسّ بشعور أفضل قليلاً نتيجة لذلك، لأن الوحدة والهجر هي المخاوف الأكبر في عصر الفردانية ذلك، لكن من السهل جداً عندما تستمر في إضافة أو حذف الأشخاص على مواقع التواصل، أن يفشل الناس في تعلم المهارات الاجتماعية الحقيقية، ذلك أنك تحتاج عندما تسير في الشارع، أو تذهب إلى أماكن العمل، أو تجتمع بالعديد من الأشخاص أن تدخل في تفاعل مع كل هؤلاء». في المقابلةِ عينها، يستشهد بخصم: البابا فرنسيس. لا يقول إنه خصم، بل يصفه بالرجل العظيم (ليس ضرورياً أن نوافقه)، لأن أول حوارٍ أجراه كان مع الصحافي الإيطالي الذي أعلن إلحاده، يوجينيو سكالفاري، لأن الحوار لا يكون بين أشخاص يؤمنون بالأشياء نفسها. أما «مواقع التواصل، فلا تعلمنا الحوار لأنك يمكنك أن تتجنب الجدال بسهولة، معظم الناس لا يستخدمون مواقع التواصل لكي يتوحدوا، أو لتوسيع أفقهم، بل على العكس من ذلك، ليقتطعوا لأنفسهم مساحة للراحة، حيث يمكنهم سماع صدى أصواتهم فقط، والأشياء الوحيدة التي يرونها هي انعكاسات وجوههم، صحيح أن مواقع التواصل مفيدة، توفر المتعة، لكنها مجرد فخ». وهذا هو النمط الرأسمالي الحالي، وانعكاسه الجلي في حالة «مواقع التواصل الاجتماعي»: مجرد غرفة مغلقة، يسمع فيها المشتركون أصداء أصواتهم، يستهلكون أصواتهم ويحتفلون بخداع أنفسهم.