في روايته الجديدة «خمّارة جبرا» (دار المتوسط)، يستدرجنا الكاتب السوري نبيل الملحم (1953) إلى رائحة عفونة قديمة تهبّ من أمكنة استثنائية لطالما أهملتها سرديات الآخرين. عفونة لا تخصّ شخصياته الهامشية أو عشوائية وجودها وحسب، وإنما أحوال بلاد أقرب ما تكون إلى «كرخانة» وفقاً لخرائط صاحب «بانسيون مريم» في فحص تضاريس جغرافيا متحوِّلة.
ذلك أنّ «جاد الحق جاد الله» خلال استعراضه شريط حياته، وهو مرمي بإهمال في ساحة مستشفى المجتهد الوطني، فوق كرسي بعجلات، في انتظار تاكسي تخرجه من المكان، يستحضر وقائع ثمانين عاماً عاشها مطعوناً بكرامته، بوصفه حشرة ضالة تكاد تسحقها أحذية الآخرين لفرط هشاشته ودونيته. كائن مثله ولد من علاقة غير شرعية، سيبقى سجين الظل في متاهة عبثية محمولة على شعارات جوفاء اخترعها بنفسه كي يضع الآخرون تواقيعهم عليها، في رحلته العجائبية من صبي قهوة في إحدى صحف الخمسينيات إلى صحافي لامع، قبل أن ينتهي به المطاف في أروقة منظمة شعبية تابعاً ذليلاً لرئيسها بجبروته الأمني الصارم. الطفل الذي احتضنته «زمردة»، سينتهي بعد دفن أمه فاطمة إلى العيش في حي عشوائي عند أطراف المدينة.

سنقع على رغبة
توثيقية لأحوال بلاد لم
تهنأ باستقلالها

وسوف تنتبه عاهرة تدعى «فرنسا» كانت عشيقة لضابط فرنسي في فترة الانتداب، إلى جمال زمردة فتستدرجها إلى الكرخانة التي تعمل فيها كبضاعة غير مستهلكة، إلى أن وقع في غرامها مثقف وجودي ثري يدعى «قتيبة شهاب» لا يشبه زبائنها الآخرين، كان قد تعرّف إليها في المبنى الجديد للكرخانة «الروبير». وهو ما سيضعها في مقامٍ آخر، بعيداً عن زبائن خمّارة جبرا في الحي العشوائي الذي نشأ فيه جاد الحق. وستلازم جبرا حسرة أبدية باختفاء فرنسا حبه الضائع، بالتوازي مع غياب «آنا» ابنة عزرا اليهودي الدمشقي الذي هاجر إلى «أرض الميعاد» كأول عشق لجاد الحق الذي ما انفك يطارد طيفها في أزقة حي الأمين من دون جدوى.
تتشابك مصائر الشخصيات تبعاً لتبدّل الأزمنة والمسافات، وإذا بـ «وارث أسنان أمه» الذي كان مجرد متسكّع في خمّارة جبرا يدير فندقاً للعاهرات، فيما تزداد حدبة جاد الحق ضخامةً تبعاً لهزائمه وانكساراته المتعاقبة في مزيج تراجيدي من آلام «أحدب نوتردام» فيكتور هوغو، و«حشرة» فرانز كافكا، بخلائط محليّة تنطوي على حفر عميق لمعنى العهر الثقافي والسياسي بالمقارنة مع العهر الجسدي.
الراوي هنا يطهّر شخصياته المستلبة من خطاياها مانحاً إياها أوهامه عن هذه الشخصيات وقدرتها على مواجهة أقدارها ببسالة. ليس جاد الحق وحده من يصنع المعجزات البلاغية ويصعد سلالم الطبقات العليا. هناك أيضاً «فرنسا» التي تنتهي في قبرها إلى قدّيسة، و«زمردة» التي تشع بريقاً وجمالاً وفلسفةً، تبعاً لرغبة الراوي وأدواته أكثر مما تفرزه حيوات الشخصيات، في رهان تخييلي على انتصار الهامش في مواجهة مركز ينخره الفساد، وتجلله الفضيحة بكل طبقاتها. وإذا بنا إزاء كرخانة كبيرة تفرز تشوهات سلطة تتستّر على عيوبها بسطوة القوة وجبروت المنصب. وتالياً لا يتردّد الراوي في استعمال لغة سوقية تنأى عن الحشمة كترجيع لزيف متراكم أدى إلى احتضار جماعي طال القيم والسلوكيات وأحلام القوة والمال. حالة الدوخان التي نجدها في خمّارة جبرا يمكن تعميمها على ما خارجها. بالكاد نجد فروقات صريحة بين القاع والنخبة، فلكلٍ من الشريحتين أمراضها وعفنها وبثورها، فجاد الحق هو نفسه من يكتب افتتاحيات رئيس تحرير الصحيفة العمالية، وقصائد جورجيت التي اقتحمت الوسط الأدبي بسطوة جمالها وشهواتها ولكنتها الفرنسية، قبل أن تلقى حتفها بجريمة يرتكبها جاد الحق لمصلحة شخصية أمنيّة بقصد السطو على ميراثها. تنحو «خمّارة جبرا» إلى استثمار جماليات الواقعية السحرية لجهة المناخ العجائبي تارةً، وأرشفة ميراث العفن طوراً. في منعطفات الرواية وفصولها، أو في خلفية الوقائع اليومية، سنقع على رغبة توثيقية لأحوال بلاد لم تهنأ باستقلالها إثر انتهاء حقبة الانتداب الفرنسي، مروراً بالانقلابات العسكرية، وصولاً إلى اللحظة الراهنة بكل استعصاءاتها، ما يستدعي وضعها جغرافياً بين ثنائية (الكرخانة/ المستشفى). رغم كل هذه الأهوال التي يعبرها جاد الحق، إلا أنه ما زال مرمياً في ساحة المستشفى وفوضى عربات الإسعاف التي تنقل جرحى المعارك، بقدمين معطوبتين وذاكرة متوقدة، وامرأة تنصت إلى هذيانه، في انتظار إحضار تاكسي تقلّه إلى بيتهما في منطقة عشوائية بات مصيرها أقرب ما يكون إلى قبر جماعي مهمل. كأن كل الكتب المتراكمة إلى جانب سريره، وكذلك المخطوطات السريّة التي رافقته طوال عقود، كانت مجرد منام يصعب تصديقه لفرط تمزقه وإحالاته التي تتناسل على هيئة صفعات وخيبات وفضائح تطال الجميع، بما يجعله كابوساً يجثم على الصدر، من دون أمل بالنجاة. في روايته الخامسة هذه، ينهل نبيل الملحم من مخزون حكائي شفوي محاولاً تحريره بجرعات متتالية أثقلت السرد في بعض مفاصله بما لا تستطيع شخوص الرواية احتماله، كأن الراوي أراد أن ينتقم لها بما لم تستطع أن تحققه فعليّاً في الواقع المحتضر.