ماذا لو أنّ والدك الذي مات، فرضاً، كان يُمكن أن يَعيش خمس سنوات إضافيّة، مثلاً، لولا أنّه تنشّق الكثير مِن هواء مدينة هي مِن الأكثر تلوّثاً في العالم؟ هل يُمكن أن نعتبر أنّه مات ميتة طبيعيّة، أو مِن قبيل القضاء والقدر، أو "موتة ربّه"... وما شاكل؟ ماذا؟ المسألة شخصيّة.
لا بدّ أن تكون كذلك، وهي كذلك، فعلاً. ماذا لو أن التلوّث المتفاقم في لبنان، خاصة أخيراً، ليس نتاج عوامل طبيعيّة، بل هو عمل مسؤول حكومي، سابق وحالي، سرَق وهدر وأهمل وفسد وأفسد؟ هل يُمكن أن نعدّه قاتلاً؟ القتل جماعي هنا. ليس رائجاً أن يُدرج هذا الفعل ضمن "جرائم ضد الإنسانيّة" في نظام روما. دعك مِن القوانين ووعورة مسالكها، إنّما منطقيّاً ماذا؟ تشتهر الدول الصناعيّة الكبرى بمدنها الملوّثة بيئيّاً، لكنّها، في النهاية، صناعيّة. ما الذي نصنعه نحن في هذه البلاد، سوى الهراء، حتى تكون بيروت مِن أكثر مدن العالم تلوّثاً؟ في تلك الدول يدفعون ضريبة، ولو مِن صحّتهم، لكنّهم يأخذون في المقابل صناعة. بعض الرفاهيّة، راهنة أو مؤجّلة، إنّما قائمة. ما الذي نأخذه نحن؟ قاتِلُنا يمتاز بالكثير مِن الوقاحة. في العام الماضي، وعلى ذمّة مؤشّر معايير التلوّث العالمي، حلّت بيروت في المرتبة الثانية عالميّاً (الأكثر). كان ذلك في العام الذي تكدّست فيه النفايات في الشوارع، وجعلت الناس ينزلون إلى الشارع، مِن دون نتيجة. هذه النفايات التي لا نزال، إلى اليوم، نسمع عن مشاكلها في تقارير إعلاميّة. أكثر الناس لا يعرفون كيف انتهت تلك "الهمروجة". المهم ألّا يَرى الناس النفايات بعيونهم. ربما وضعتها السُّلطة خلف الجدار، لا بأس، المُهم ألّا تُرى بالعين مباشرة. لعبة بصريّة أخرى. هذه طبيعة بشريّة، ربّما، لكن الأكيد أنّهم يلعبون عليها. كيف يُمكن أحدنا ألّا يرى المسؤولين عن تفاقم التلوّث، السلف مِنهم والخلف، أنّهم يَقصفون أعمارنا، بعدما يخرج نقيب أطباء ليعلن، تليه دراسة جامعيّة لتؤكّد، أنّ نسبة التلوّث في بيروت هي نحو 400 مرّة أكثر مِن المعدّل المقبول عالميّاً؟ يا عمي ألا يُفترض أن نموت؟ بلى، كلّ يوم نموت. لكن هذا موت في غاية السلاسة. بهدوء. سرقة سنوات مِن العمر المتوقّع. إن مات أحدنا اليوم، بمرض، فالفرضيّة العلميّة تقول إنّ الموت لم يكن ليحلّ بمن مات لولا التلوّث. المشكلة الآن أنّ ما تنشقناه قد تنشقناه، وخلص. الضرر حصل، ويحصل. نعم يُمكن أن يتضاءل، لاحقاً، إن حصلت معجزة "إصلاحيّة" ما. إنّما بمطلق الأحوال، ما مِن أحد يعيش هنا إلا وقد تمت "جمركة" أيام أو شهور أو سنين مِن عمره. على قدر زاوية تنشّقه وطبيعة بنيته. أحد ما، يعيش بيننا الآن، أسهم في موتنا الذي سنموته لاحقاً! هكذا هي. لن يُدان بجرم القتل. هذا مؤسف. إن كان البنك الدولي، هذا المعني بالمال وأساليبه، قد تحدّث عن موت 1816 شخصاً في لبنان عام 2013 بسبب تلوّث الهواء، فكم سيكون العدد في سنوات ما بعد أزمة النفايات؟ علينا أن نراقب العدّاد. البنك الدولي سيتكفّل بالمهمة في مطلق الأحوال.
دعنا مِن الموت الجسدي المباشر وغير المباشر. قبل نحو 27 عاماً، تحدّث الدكتور أحمد مدحت إسلام، في شهرية عالم المعرفة، عن التلوّث البيئي الذي يُسبب الخبل والعته واضطراب الانتباه ومشاكل الذاكرة والهلاوس، فضلاً عن الكآبة. نقل هذا عن دراسات كانت قد أجريت آنذاك. هذا النوع مِن الدراسات، على قلته بما يتصل بالشأن النفسي والعقلي، أظهر عام 2015 أنّه "بكلّ تأكيد تلوّث الهواء له صلة بالصحة النفسيّة". هذا ما تقوله ميليندا باور، مِن جامعة جونز هوبكينز في بالتيمور الأميركية، المشتغلة على الدراسة. خلاصة ما جاء فيها: "معدلات عالية مِن القلق النفسي مرتبطة بمعدلات عالية مِن تلوّث الهواء". منظّمة الصحة العالميّة أكّدت الأمر عينه في تقريرها لعام 2011 عن "جودة الهواء والصحة". تقول فيه: "كلّما انخفضت مستويات تلوّث الهواء في المدن، تحسّنت صحة سكانها النفسيّة والقلبيّة الوعائيّة (على المديين البعيد والقريب على حد سواء)". علميّاً، يُعَدّ أول أكسيد الكربون مِن أشهر ملوّثات الهواء، الذي، فضلاً عن الضرر الجسدي المباشر، يؤدي إلى ضعف الحكم على الأشياء والخلل في إدراك الوقت. المسألة ليست علماً زائفاً، بل مِن الجديّة إلى حدّ ولادة علم قائم بذاته يُسمى "علم النفس البيئي" (بالكاد يُعرَف في بلادنا). الخلاصة، الآن في الوقت الذي تُسرق فيه سنوات كان يُمكن أن نعيشها، تُسرق، الآن أيضاً، سلامتنا النفسيّة في السنوات التي نعيشها فعلاً... بانتظار موتنا. هكذا تُقصَف أعمارنا.