أثار الموت المأسوي لبائع سمك في الحسيمة بالمغرب في تشرين الأول الماضي، موجة من الاحتجاجات في الريف المغربي والرباط والدار البيضاء، فضلاً عن المدن المغربية الكبرى الأخرى، حيث ردد المتظاهرون شعارات مثل «اسمع يا مخزن... شعب الريف لن يذل» (تشير عبارة مخزن إلى المؤسسة الملكية والحكومة في الرباط)، مطالبين بكشف حقيقة مقتل هذا البائع الذي تعرض للسحق داخل سيارة قمامة.
لم تتوقف هذه الحمى من الاحتجاجات إلا بعد عدة أيام، وقد استرجع هذا الحادث المأسوي التقاليد الطويلة للتمرد المدني والاحتجاج في هذه المنطقة المسماة بـ»متمردة المغرب». فمن الاحتجاجات المناهضة للاستعمار في الفترة بين 1910 إلى 1920، إلى الاحتجاج الاجتماعي الكبير في 1984، مرورا بالانتفاضة الديموقراطية الثورية في 1959، ظل الريف مركزاً للعديد من «المعضلات».
وتشكل هذه المنطقة جزءاً من «المغرب عديمة الفائدة» منذ حكومة الوصاية الأجنبية وحتى الآن. ففي الحقيقة خلال الفترة الاستعمارية، لم تجد منطقة الريف أي مكان لها ضمن نموذج التنمية الرأسمالي في المغرب، المتمحور على فتح السهول الأطلسية (المغرب ذات الفائدة) للاستثمارات في الزراعة والمناجم والبنية التحتية للمواصلات. وجسدت منطقة الريف على وجه الخصوص وطن عبدالكريم الخطابي، الرمز الرئيسي للكفاح ضد الاستعمار ومؤسس الجمهورية العربية في 1922، والتي سقطت سريعاً وسحقت بفجيعة بسبب الجهود المشتركة لإسبانيا وفرنسا والمخزن بعد عامين من الحرب التي شهدت استخدام مئات الأطنان من غاز الخردل من قبل القوى الاستعمارية بهدف محو القرى. وقد تحوّل ذلك القمع الوحشي إلى «قالب الصب» الوجودي للتعامل مع جميع الانتفاضات المستقبلية للمنطقة.

ظلت المنطقة العميقة المعزولة عن الساحل محرومة من الاستثمار

في اليوم التالي لاستقلال المغرب، اندلعت انتفاضة ديموقراطية في منطقة الريف 1958/1959 اعتراضاً على تفضيل الملك محمد الخامس غلق الحدود مع الجزائر، التي يعتاد الآلاف من الريفيين العمل فيها، غير أن هذه الانتفاضة غرقت في الدماء بسبب الجنرال أوفقير، الملقب بـ «جزار الريف»، والأمير مولاي حسن، الذي سيصبح في ما بعد الملك حسن الثاني.
شكل هذا الحادث تحولاً حاسماً نحو تهميش الريف من قبل الملكية المغربية التي استغلت هذه الفرصة من أجل تعزيز سلطتها وترهيب الأحزاب السياسية الداعية للاستقلال، ولا سيما الداعين لجمهورية اجتماعية للريفيين، الأمر الذي كشف عن وجود ثقافتين سياسيتين متصادمتين بشكل دائم: أولهما ثقافة المساواة المحفورة في تاريخ المقاومة الريفي، والثانية ثقافة الملكية المستمدة من تقليد علماني، وظل الريف حتى وفاة حسن الثاني مهملاً عن عمد، في حين تركزت كل جهود التنمية على المناطق الواقعة على الساحل الأطلسي.
وظلت المنطقة العميقة المعزولة عن الساحل محرومة من الاستثمار والبنية التحتية والمدارس مع استمرار هذا الانقسام المتعمد بين المغرب ذات الفائدة والمغرب عديمة الفائدة، كما ظل الاقتصاد إلى حد كبير معتمداً على الخارج ــ نقل رؤوس أموال من الأسر المهاجرة في أوروبا ــ وعلى أشكال عديدة من الاقتصاد الموازي، مثل التهريب وثقافة الحشيش التي شهدت تطوراً سريعاً. وبحسب الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات، أصبحت المغرب في 2015 المصدر الأول للحشيش في العالم، حيث أنتجت وحدها 42% من الإنتاج العالمي. وكان لهذه الزراعة غير القانونية تأثير أكثر سوءاً على منطقة الريف، لا سيما أنها عززت الفساد في الإدارة العامة وفقر المزارعين المحليين، وكشفت أحداث مثل الانتفاضة الاجتماعية الكبرى التي اندلعت في 1984 وأعمال الشغب في مدينة صفرو في 2007، استدامة أوجه التفاوت بين المغربين والتنمية الاقتصادية ذات السرعتين المتفاوتتين.
وفي هذا السياق من الانسداد الهيكلي، عمدت السلطات المغربية إلى تقسيم المنطقة إدارياً، كسلاح من أجل تحطيم تضامن الريفيين وتوحدهم في معارضة السلطة المركزية، وجراء ذلك انفصل إقليم الناظور عن الريف الذي يضم أقاليم تاز والحسيمة وتاونات في الشمال الشرقي، وأقاليم تطوان ولاراش وشوان في الشمال الشرقي أيضاً، ومحافظات فاس وبني ماكادا وطنجة ــ أصيلة. هذا التعسف من قبل السلطات أدى إلى ظهور شكل جديد من أشكال المعارضة، غذى الاحتجاج الاجتماعي التاريخي بأسباب إضافية، مثل الظلم والإذلال للشعب الريفي.
في عام 2005، أي بعد عام واحد من القمع الذي تلى زلزال الحسيمة، أخذ الاحتجاج منحى متطرفاً مع ظهور الحركة من أجل الحكم الذاتي في الريف التي دافعت بالقوة عن الأمازيغية في الريف.
وعلى الرغم من وجود اختلاف لغوي بين شعب إقليم الريف (العربية والبربرية)، فإن القضية الريفية لم تعد آمنة من التلاعب بالهوية التي من الممكن أن تلعب عليها السلطة الملكية من أجل التشتيت عن القضية الحقيقية: القضية الاجتماعية ومصير هذا الشعب البائس.