بعد مرور أكثر من 20 شهراً على اندلاع الحرب السعودية على اليمن في آذار/مارس 2015، تبدو جردة الحساب مُراوِحَة ضمن ما كان متوقعاً منذ ذلك التاريخ؛ حربٌ قياسية زمنياً، تُختبر فيها شتى أنواع التجارب العسكرية، ولا يتحقق أي من أهدافها الرئيسة، رغم ما يحظى به «التحالف العربي» الذي تقوده الرياض من دعم وتغطية من الولايات المتحدة وبريطانيا، منذ أكثر من 600 يوم على الحرب.
دعم غربي تنوّعت أسبابه وتعددت مبرراته؛ من الطمع في الإنفاق الحربي السعودي وصفقات السلاح مع الشريك النفطي القديم، إلى الحرص على عدم تبدل الاصطفاف السياسي، إقليمياً ودولياً، للخاصرة الاستراتيجية للمنطقة (اليمن)، المتوافرة على أكثر من موقع تحكّم حساس، أبرزها الإطلالة الشرقية على مضيق باب المندب.

من يخوض الحرب؟

تخوض هذه الحربَ أغنى دولة في العالم، المملكة المدجّجة بثاني أكبر احتياطي نفطي على أقل تقدير، ولّد لديها طفرة مالية استخدمتها السعودية في السنوات الأخيرة في تكديس ترسانة من أحدث الأسلحة والمعدات العسكرية الغربية عموماً والأميركية خصوصاً. لم يقتصر الأمر على شراء المقاتلات والدبابات والسفن الحربية، بل ابتاعت الرياض دولاً بأكملها كالسودان مثلاً. جمّعت السعودية كل ما أوتيت من وسائل الترغيب والترهيب هذه، جارّة خلفها «تحالفاً عربياً» لم يصفُ لها منه إلا الإمارات عملياً، متسلحة بموقف أميركي ثابت في تغطية المعركة سياسياً وتسليحياً ولوجستياً... هكذا وقفت السعودية أمام الجار الجنوبي ومعها عناصر قوة وأسباب انتصار ربما لم يسبق لطرف مهاجم أن توافر عليها، في مقابل بلد افترضت المملكة أن أسباب هزيمته مكتملة الأركان.
افتراض سرعان ما بدأ يتبدد شيئاً فشيئاً مع انغماس السعودية في الساحة اليمنية. لم تجد المملكة نفسها عاجزة عن بلوغ أهدافها الرئيسة المتمثلة في: إعادة الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى صنعاء، نزع سلاح حركة «أنصار الله»، تدمير القوة الصاروخية للجيش اليمني، وفرض فدرالية الأقاليم بالقوة، فحسب؛ بل تحولت الحرب إلى عبء على السعودية بعد انتقالها إلى داخل أراضي المملكة صاروخياً وبرياً، وتسبّبها في نزف مستمر لاقتصادها، في ظل الانخفاض الحاد في أسعار النفط.


تحولت الحرب إلى عبء على السعودية بعد انتقالها إلى داخل أراضي المملكة

جبهات الداخل اليمني

بعد مرور أسابيع على بدء المواجهات في جنوب اليمن، قررت «أنصار الله» والقوات المسلحة اليمنية الانسحاب من معظم الجبهات هناك، لا تحت الضغط العسكري كما روّج الإعلام الموالي للسعودية، بل لحسابات سياسية تتصل بخصوصية الوضع في الجنوب والحرص على منع تعمّق الشرخ مع الحليف السابق (الحراك الجنوبي)؛ ولذلك حصراً لم يتمسك الجيش واللجان الشعبية بجبهات المحافظات الجنوبية والشرقية كما فعلا في تعز.
منذ أشهر، تنحصر المعارك في قرابة ست جبهات هي تعز ومأرب والجوف وصنعاء وصعدة وحجة. وتسعى القوات الموالية للسعودية جاهدة لتحقيق اختراقات في تلك الجبهات، خصوصاً منها الساحلية في تعز لإبعاد الجيش واللجان عن باب المندب والبحر الأحمر، والداخلية في نهم لشق الطريق إلى صنعاء، والحدودية في البقع لضرب «أنصار الله» في معقلها الأول في صعدة. أهداف يثبت يوماً بعد يوم أنها أقرب إلى ضروب المستحيل، لأسباب متعددة، أوّلها في تعز حيث الجغرافيا والحاضنة الشعبية في المناطق الحساسة تصبّ في مصلحة الجيش واللجان، وثانيها في نهم حيث تلتهم المرتفعات الجبلية المحيطة بالمنطقة زحوفات القوات الموالية لـ»التحالف»، فيما لم يفلح الأخير في استمالة «الحزام القبلي» الذي كان يراهن عليه في إسقاط صنعاء، وثالثها في صعدة حيث يبدو المشهد الأكثر هزلية؛ إذ إن القوات السعودية الموجودة على الضفة الشمالية من الحدود لا تستطيع التقدم خطوات خلف خطوط عدوها، في الوقت الذي تعجز فيه عن صدّ هجمات «أنصار الله» وحلفائها على عمق المملكة في عسير ونجران وجيزان، ولذلك تستعين الرياض بمقاتلين سلفيين وجهاديين لتحقيق تقدم نحو صعدة عن طريق منفذ البقع، إلا أن هؤلاء تحولوا إلى لقمة سائغة للألغام التي زرعها اليمنيون هناك، ولأسطوانات الغاز وأنابيب المياه التي حشوها بالديناميت، وفق مصادر ميدانية.

معركة الحدود

أما في العمق السعودي، فتتجلى المعادلة الأكثر قساوة بالنسبة إلى الرياض وداعميها الغربيين. أرسى المقاتلون الحفاة (حقيقة لا مجازاً) توازناً فهمت بموجبه الرياض أنها لم تعد وحدها في موقع المهاجم والمهدد بتغييرات مصيرية واستراتيجية كاحتلال مدن وتكريس التقسيم؛ فالتهديد مثلاً بإسقاط مدينة داخل اليمن بات يقابله انتزاع لا قرى سعودية فحسب، بل مدن بأكملها، كنجران التي لا يحول دون دخولها حتى الآن إلا القرار السياسي.
وإلى جانب الخسائر البشرية التي تستنزف القوات السعودية يومياً، تأتي الخسائر المعنوية التي طاولت هيبة هذا الجيش، وجعلته مادة للتندر والسخرية لدى اليمنيين. ربما يُخيّل إلى كثيرين أن دبابات الـ»أبرامز»، فخر الصناعة الأميركية والباهظة الثمن، تم تدمير عدد هائل منها في عسير ونجران وجيزان بصواريخ الـ»كورنيت» المتطورة وغيرها من الأسلحة المضادة للدروع، والحقيقة أن غالبية تلك الدبابات ومعها المدرعات الغربية الصنع الأخرى أحرقها اليمنيون بولاعات السجائر البخسة لا أكثر، بعدما هجرها جنودها وفروا من الميدان.

معركة السياسة والاقتصاد

في المعركة السياسية الموازية، وصل النظام السعودي إلى اقتناع يرفض، إلى اليوم، الاعتراف به، مفاده أن الطرف المقابل ليس عبارة عن حفنة من الضباط والميليشيويين الابتزازيين الباحثين عن مغانم وأدوار في السلطة، بل حركة تحول ثوري مسنودة من قبل الشعب والجيش، لديها قرار حاسم ونهائي بالاستقلال عن الوصاية السعودية التي حكمت اليمن عشرات العقود. هذه الخلفية هي التي جعلت اليمنيين يتقبّلون ثمن المواجهة، مهما كان باهظاً، ويرفضون ما يُرمى إليهم من تسويات مجحفة تستهدف إعطاء السعودية ما لم تكسبه في الميدان، وما تشكيل حكومة «الإنقاذ الوطني» في صنعاء إلا دليل واضح على المنحى المذكور، في قبالة «ارتهان» سعودي للإرادة الأميركية بدأ منذ لحظة إعلان الحرب من واشنطن (على لسان عادل الجبير، السفير في حينها)، ولا يزال متواصلاً مع حالة ترقّب الرياض لخيارات إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب.
يُضاف إلى نقطة القوة اليمنية تلك أن الرياض فشلت عملياً في فرض أي متغيرات تمكّنها من إخضاع اليمني على طاولة التفاوض، إذ إن مساعيها في تكريس مشروع الأقاليم الفدرالية بالقوة تبدو بعيدة عن التحقق، بالنظر إلى الخلافات المستفحلة بين حلفائها، وغياب الرافد الشعبي لذلك المشروع، وافتقاره إلى المقومات الموضوعية اللازمة. كذلك فإن جهود المملكة وحلفائها في تطييف المعركة أو إعطائها صبغة مذهبية اصطدمت بأرضية يمنية صلبة، عصيّة على العصبية والشحن والاصطفافات العمياء.
اقتصادياً، تراهن السعودية، بعد انسداد الأفق أمامها عسكرياً وسياسياً، على انكسار يمني بالتجويع والإفقار. في سبيل ذلك، جاءت خطوة نقل البنك المركزي إلى عدن، والتي تسبّبت في حرمان السواد الأعظم من اليمنيين من رواتبهم، إضافة إلى تشديد الحصار الجوي والبحري والبري. خطوتان تؤكد مصادر يمنية أنهما لن تؤتيا أكلهما، أقله على المدى المتوسط، لكون اليمن بلداً ألِف لسنوات الفقر وغياب بنية اقتصادية حقيقية، واعتاد إيجاد بدائل تمكّنه من الصمود في أصعب الظروف (عرفت دول كبرى وغنية تجربة التجويع في الحروب، وقد استطاع وزير التموين في حكومة ونستون تشرشل، ببعض الخطط البسيطة، التغلب على الأزمة في بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية).
في المقابل، تشي الأرقام السعودية بخسائر تكبّدها اقتصاد المملكة جراء الحرب على اليمن، انعسكت بوضوح على ميزانيتيها لعامي 2016 و2017، وطاولت البنية الاقتصادية والاجتماعية برمتها. صحيح أن لعجز الرياض أسباباً أخرى أبرزها انخفاض أسعار البترول، إلا أن الإنفاق العسكري غير المحدود، بأرقام «فلكية» بلغت عشرات مليارات الدولارات، أرهق خزينة النظام. إنفاق اعترفت الحكومة السعودية مؤخراً، على لسان وزير الطاقة خالد الفالح، بأنه لا يخضع لسقف.

منظومة الصمود اليمنية

علاوة على ما تحظى به القوى الثورية في اليمن من احتضان شعبي، وقابلية اليمنيين للصمود، تتميز إدارة الجبهة العسكرية بمقومات رئيسة ثلاثة هي: مقدرات الجيش اليمني ومهارات حركة «أنصار الله» القتالية، والخبرة المكتسبة على مدار حوالى عامين من القتال، والدعم اللوجستي والتدريبي المتواصل من قبل الأصدقاء. مقومات يجدر معها بالسعودية أن تدرك أن حصارها لن يجدي نفعاً. في هذا الإطار، يصف مصدر إقليمي معني، لـ»الأخبار»، التجربة العسكرية اليمنية بـ»المثيرة للدهشة»، كاشفاً عن تطور كبير حصل خلال العامين الماضيين استطاع من خلاله اليمنيون، وبمساعدة أصدقائهم، سدّ الثغر ومعالجة نقاط الضعف ومراكمة القوة تحت وطأة الحرب وفي ظل استمرارها وترميم المنظومة العسكرية وتطويرها، وهو عادة ما تقوم به الجيوش في أيام السلم. ويؤكد مصدر معني آخر أن ملف التطوير الذاتي لقدرات عسكرية في اليمن بات ملفاً جدياً وحقيقياً، وهو بدأ يسلك سبيله إلى التنفيذ، ومرشح للتفعيل أكثر بصورة مفاجئة، إلا أن ذلك لا يعني، بحسب المصدر، أن السعودية والولايات المتحدة نجحتا أو ستنجحان في تثبيت الطوق حول اليمن، أو أن الحصار أوقف خطوط الإمداد التسليحي والتدريبي التي قد يحتاج إليها اليمنيون.