«إنّ «العالم الآخر»، فيما يجري بناؤه يكون دوماً حمّال أوجه: فهو يحمل في داخله الأقبح والأحسن معاً، والإثنان «محتملان» … لقد قامت موجةٌ أولى من المبادرات، قادتها شعوب وأمم ودول الهامش خلال القرن العشرين، واستمرّت حتى 1980… لقد انطلقت، بالفعل، موجةٌ ثانية. هل ستكون أكثر فعالية هذه المرّة؟ هل ستذهب أبعد من سابقتها؟»سمير أمين ــــ من مقدّمة الطبعة الثانية لكتاب «التنمية القاصرة»، 2011 يختلف سمير أمين (ومعه آخرون من أتباع مدرسة التبعية) مع التحليل الماركسي اللينيني في نقطتين أساسيّتين.

يعتبر أمين أنّ لينين قد قلل من تقدير عمليّة «الإستقطاب» التي تصنعها الرأسمالية على مستوى الكوكب، بين «مركزٍ وهامش» (أو «شمال وجنوب» أو «دول صناعية ودول نامية»، سمّها ما شئت)، وحقيقة أنّ الرأسمالية ليست ملعباً مستوياً تتطوّر فيه جميع الدّول تحت ظروفٍ متشابهة. ثانياً، إنّ إغفال هذه الديناميّة قد منع الكثير من الماركسيين من التنبّؤ بالتأثير الذي تسبّبه حالة «اللامساواة» هذه، والامتياز الذي تحظى به أقاليم في العالم على حساب أخرى، على سلوك وخيارات الطبقات العاملة في الغرب.

الايديولوجيا والمصالح

بتعابير مبسّطة، العمّال في الغرب ــــ وإن كانوا يتعرّضون للإستغلال الداخلي ككلّ عمّال الدنيا ــــ هم ايضاً مستفيدون من كونهم ولدوا في فرنسا أو أميركا أو الدنمارك، وليس الهند أو اوغندا؛ وهم، حين يوضعون أمام الخيار، سيقفون الى جانب حكّامهم «الوطنيين» (وامتيازاتهم النسبيّة) وليس الى جانب اخوانهم العمّال الجائعين في افريقيا وآسيا. من هنا، تذهب الحجّة، ليس من المنطقيّ توقّع «ثوراتٍ اشتراكية» في دول المركز الغربي ــــ كما تأمّلت الماركسية التقليدية طويلاً ــــ أو حركات أممية انسانية تنطلق من الغرب وتضع مصالح الآخرين أمام مصالحها. التقسيم الامبريالي للعالم لا يؤمّن فوائد وارباحاً لشركات السلاح والنخب الحاكمة وقطاعات محدّدة فحسب، بل هو يشكّل كامل نمط الانتاج في المجتمع الغربي ويصير لبنةً في أسسه (يذكر سمير أمين التأييد الذي تسبغه شعوب الشمال، عادة، على حروب حكوماتها في بلادنا، وتحوّل الأحزاب الاشتراكية في فرنسا وغيرها الى أحزاب ليبرالية معادية للشيوعية ــــ وشركاء في النظام الحاكم ــــ كأدلّة جلية على هذه الفكرة).
لو نظرنا الى الأمور من هذه العدسة، فقد يصير واجباً علينا أن نعيد النّظر، لأسباب سياسية وليست ثقافويّة او استشراقية، بالكثير من الأدبيات السياسية التي تخرج من اليسار الغربي، وطروحات كتّابٍ كنعوم تشومسكي، وفكرة أنّ «البروليتاريا» في الغرب والشرق واحدة وتتشارك في المصالح والمصير، وصولاً الى ثقافة الحقوق الفردية والهويات «المعولمة» التي راجت في السنوات الماضية ــــ وهي، كما يوضح جوزف مسعد وآخرون، عبارة عن ثقافة خاصّة بالبرجوازية البيضاء داخل المجتمع الغربي، ولدت في سياق تاريخي محدّد خلال نصف القرن الأخير، ويتمّ تقديمها اليوم على أنّها قيمٌ كونيّة. بالمناسبة، هذا في حدّ ذاته ليس مشكلة ولا ينتقص من هذه الأفكار، ولكن الأساس هو أن لا نؤسطرها ونجعلها منزلة بلا تاريخ، وأن نكون واعين لمنشأها وتاريخيتها وأنها، في المركز الغربي ذاته، ليست منتشرة خارج الطبقة الوسطى والعليا. في مجتمعات الفقراء والمهاجرين والأرياف في أميركا، مثلاً، ذكوريّة فظيعة، وهوموفوبيا شائعة، وأكثر الناشطين والناشطات البيض لا يجرؤون على دخول الغيتو والقرى المتديّنة، أو محاولة تنوير الرجال السّود بشأن ذكوريتهم، ولكنّهم مستعدّون لاجتياز نصف الكوكب (مع دعمٍ حكومي ومؤسسي، بالطبع) للتبشير بأولوية قيمهم في بلادٍ فقيرة، محتلّةٍ، محطّمة.
لهذه الأسباب، لا يتوقّع سمير أمين أن تخرج حركة راديكالية تقدّمية من دول المركز حتّى تتفاقم أزمات الامبراطورية، وتخسر هذه الشعوب ميزاتها التي تأتي من الهيمنة والاحتكار، وتقتنع بعدم جدوى نظام السيطرة والتوسّع (وهو يشبه، بمعنى ما، المعادلة بيننا وبين الصهيونية). حتّى الأزمات وتفاقم الغضب الشعبي في الغرب ضد النخب والحاكمين لن يؤدّيا، بالضرورة، الى مواقف تقدّمية. خلال الحرب الباردة، كانت دول المركز الغربي تستخدم جزءاً من الفائض والنموّ لرفع العديد من عائلاتها العمّالية الى مصاف الطبقة الوسطى، حتّى وصلت نسبة هذه الفئة في بعض مجتمعات اوروبا الشمالية الى أكثر من خمسين في المئة في أواخر السبعينيات. منذ صعود النيوليبرالية والطبقة الوسطى في الغرب، أهم المكاسب التي حصلت عليها الشعوب في المركز، تتقلّص بدلاً من الاستمرار في التوسّع، مقابل تركّز الثروة لدى النّخبة. ولكن، بسبب هذا السّياق العالمي، فإنّ الإفقار النسبي للغربيين وثورتهم على النّخب لا يتحوّلان ــــ حتّى اليوم ــــ الى احتجاجاتٍ راديكالية يسارية، تنفتح على المقهورين في بلادهم وفي العالم، بل جيّر أساساً كدعمٍ لحركات قومية ويمينيّة وعنصريّة، من ترامب في اميركا الى لوبان في فرنسا، تنادي بحفظ «الوطن» والمواطن (الأبيض) والدفاع عن ثقافته ورفاهه ضدّ الآخرين والأجانب والارهابيين.

«المانيا واليابان» نموذجاً

ما العمل، اذاً، لو كنت بلداً جنوبياً في عالمٍ امبريالي؟ الإحتمالات الراديكالية، من نمط تأسيس نظامٍ خارج الرأسمالية، أو الطموح الى الغاء الملكية الفردية وبناء الشيوعية، هو وهمٌ بحسب سمير أمين. لا يمكنك أن تؤسّس، مثلاً، مجتمعاً مشاعياً مسالماً في عالم اليوم، اذ سيتمّ سحقك أو تخريب تجربتك. والانضمام الى نادي «دول المركز» وهمٌ آخر (حين قام مثقّفون روس، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، بالدفاع عن فكرة التصالح مع الغرب، وأن روسيا ستكرّر تجربة المانيا واليابان، التي استبدلت هزيمةً سياسية بانطلاق اقتصادي، ردّ عليهم أمين بأنّ المعسكر الغربي سمح بتطوّر المانيا واليابان، تحديداً، لأنه كان هناك تهديدٌ سوفياتي، وحاجة لاستثمار كلّ مقدرات الحلف الغربي، فلماذا سيسمحون لكم اليوم بـ»دخول النادي» طالما أنهم منتصرون ولا يوجد اتحاد سوفياتي يخيفهم؟).
في كتابه عن افريقيا، «التنمية القاصرة» (وهو قد صدر أساساً عام 1990)، يحاجج سمير أمين بأنّ أحد أهمّ الفوارق بين دول المركز ودول الهامش هو في اختلاف طبيعة البرجوازية بينهما. البرجوازية تكوين تاريخي غربي، صعد وهيمن في اوروبا وأميركا، ولكنّها ايضاً ثقافة ولغة، وأسلوب حياةٍ من الممكن «تقليده» (كما يتمّ «تقليد» مؤسسات الدولة الحديثة في العالم الثالث عبر بنى تشبهها ولكنها لا تؤدي وظائفها). بهذا المعنى، تكون هناك «برجوازيات» في دول الأطراف، ولكنها لا تمتلك كتلة تاريخية كما في المركز، ولا تستند على قوة اجتماعية وإنتاجٍ حقيقي ومؤسسات راسخة (بل تكتفي بدور إدارة النظام واستغلاله، كما مع أيّ طبقة عليا في التاريخ). البرجوازية الأوروبية مثلاً، يكتب أمين، تحوّل و»تطوّع» مطالبات السوق الدولي وأزماته الى وسائط جديدة لصنع التراكم الرأسمالي والنموّ داخل دولها، بينما في بلدان الجنوب فإنّ العكس تماماً هو ما يجري؛ اذ يقتصر دول النخبة الحاكمة على «تطويع الشعب» لإرادة السوق الخارجي وتقلباته (فتقوم الحكومات الغربية بخلق برامج تحفيز بآلاف مليارات الدولارات في أوقات الأزمة، وتعيد هيكلة المؤسسات الانتاجية حتى تتواءم مع الظرف الجديد فيما، في مصر مثلاً، يقتصر دور الحكومة على ترك العملة تتهاوى أو رفع الدّعم وتنفيذ سياسات المؤسسات الدولية ــــ أي ترجمة متطلبات السوق العالمي في الداخل وجعل مواطنيها «يتأقلمون» مع هذه الضغوط).
من هنا، فإنّ هذه البرجوازية الضعيفة في دول الجنوب تميل لأحد خيارين: امّا أن تقبل بدورٍ «كمبرادوري»، تابع سياسياً واقتصادياً، وتكون ــــ ببساطة ــــ ممثّلة للنظام العالمي في بلدها، أو تتشجّع (بسبب ضعف الهيمنة الدولية، مثلاً، أو أزمات الرأسمالية وبوادر ضعفها) وتأخذ منحىً «استقلالياً». وفي الحالة الثانية، فهي في الغالب ــــ يقول سمير أمين ــــ ستميل لاستخدام «الاشتراكية» لتشريع نفسها، وجذب وتكوين كتلةٍ تاريخية تنقصها. حتّى لو حصل ذلك، فإنّ البرجوازية الحاكمة تبقى برجوازية، وهي قابلةٌ دوماً للتخويف والتراجع ما أن تتغيّر الظروف الدولية وتزداد الضغوط عليها (وفي تعاقب الأنظمة في مصر أو روسيا، وتحوّل النخبة الناصرية الحاكمة عن الاشتراكية والقومية العربية، مثال).

الداخل والخارج

بسبب هذا السياق، فإنّ المستقبل مفتوحٌ دائماً على احتمالات متعدّدة، والظرف الدولي ليس قليل الأهمية في تقرير التقدّم والنكوص وهامش المناورة لمجتمعات الجنوب. الداخل والخارج، الطوائف والامبريالية، هذه ليست مفاهيم متعارضة أو متنافسة. هناك في العالم حولنا مفهومٌ اسمه «اميركا» وآخر اسمه «لبنان» وثالث اسمه «مذاهب»، الخ، وهذه ليست في عزلة عن بعضها، بل بينها صلاتٌ وتأثير متبادل، وواحدها لا ينفي الآخر. المسألة ليست في «الاختيار» بينها، بل في أن تتمكن من وضعها جميعاً في سياقٍ تحليلي وعقلاني موحّد.
في أيّ من مجتمعات الجنوب المفقرة، يقول أمين، من السهل «نظرياً» أن نتصوّر قسمةً بين أكثرية شعبية «تتعرض للاستغلال» وبين «أقلية مستحكمة»، ولكن هذا لا يعني شيئاً على المستوى السياسي. في كتابه المذكور أعلاه حوّل سمير أمين هذه الإشكالية الى معادلة تستحقّ أن تقتبس كاملة، اذ يقول «إنّ فكرة «الشعب» باعتباره الشيء الوحيد الذي يهمّ ــــ أي فرضية «الحركة» التي تغّير العالم من دون القلق حول استلام السلطة ــــ هي ببساطةٍ نظرةٌ ساذجة. أمّا فكرة التحرّر الوطني «بأي ثمن» ــــ أي باستقلالية عن المضمون الاجتماعي للكتلة الحاكمة ــــ فهي لا تقود الّا لأوهام ثقافية عمادها التعلّق بالماضي ... لا تملك، في الحقيقة، أي قوّةٍ للتغيير».