رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب | الصورة تكذب أحياناً. لا يخفى هذا على أحد. كذلك الكلمات، التي تعدها الناقدة الأميركية سوزان سونتاغ كالفوتوغرافيا وسيطاً لا فناً بذاته. الصور التي نشرتها الفوتوغرافية الأميركية آني ليبوفيتش لسونتاغ بعد رحيلها، قد تخادع أيضاً. لكنها ترثُ الكلمات التي لم تُقَل. ترثها، أولاً، كمساحة للتلصص على علاقة جمعت المرأتين لـ 15 عاماً، بعدما صارت لحظاتها متاحة أمام الجميع وتتناقلها عيونهم.
بعد رحيل سوزان سونتاغ بالسرطان عام 2004، تكشّف هذا القرب مرة واحدة... تلك العلاقة التي تنقلت بين شقق عدة، وترحلت بين مصر والأردن وساراييفو وباريس وأميركا وإيطاليا. نشرت المصوّرة آني ليبوفيتش كتابها الإستعادي «آني ليبوفيتش، حياة مصوّرة» عام 2006، حيث فصل كامل عن سوزان سونتاغ. تطوّر اللقاء عام 1988. كانت آني في الـ 37 تلتقط الصور الإعلانية لكتاب سونتاغ الخمسينية «الإيدز واستعاراته». اتخذ اللقاء طابع تلميذة تحبس أنفاسها لدى الجلوس مع معلمتها سوزان. لا نعرف طبيعة علاقتهما بالتحديد. هل من ضرورة لذلك أصلاً؟
سنتخيّل أن ليبوفيتش بقيت تلميذة، لكنها تتحضر هذه المرة لاختبار صعب. أن تمّحي مجدداً، لا بخجلها هذه المرة بل خلف الكاميرا. أن تداري بعدستها ذلك «التمثال الرائع الذي كنت أشعر دائماً بأن عليّ الإهتمام به». أن تخلق له الإستعارات. أن تنجّيه من رصانته. سوزان الكاتبة والناقدة الجديّة التي تكمش ابتسامتها غالباً، وتشعر بالرهبة أمام القدرة الوجودية للكاميرا، وتجلس بتقشف أمام رفوف من الكتب أو حاسوب، لم نكن لنتعرّف إليها، في صور ليبوفيتش لها، لولا وجهها المحايد دائماً. ليبوفيتش، بعد مرض سوزان بالسرطان للمرة الأولى عام 1998 وللمرة الأخيرة، قبل وفاتها عام 2003، تخلّت عن دورها كمصوّرة وأرادت أن تكون بجانبها فقط. قالت هذا في إحدى المقابلات. لكن المصوّر لا يغالب رغبته بالتأطير، ولو ذهنياً. هذا ما تفضحه الصور على سرير سونتاغ في المستشفى. مما لاحقته ليبوفيتش بعدستها هي اللحظات اللقيطة للطفولة. في صورة تجلس سونتاغ وراء كومبيوترها لكنها تلبس زيّ دبّ كاريكاتوري يلف رأسها وجسدها بالكامل. بينما تتربّع على شاطئ إحدى جزر الباهاماس (2002) وتبدو مأخوذة باللعب مع سارة، ابنة آني. مقابل هذه المطاردة البصرية لطفولة سونتاغ، لم تكن آني مصوّرة، ولم تكن سوزان سوى امرأة متمرّسة في الإستلقاء. تتكرر هذه الوضعية في معظم صور آني لسوزان. إذا كان هناك مرادف جسدي لصمت الهشاشة، فسيكون الإستلقاء. هذا بالنسبة إلى موديل الصورة. أما آني، فلعل عدستها كانت تمشي على رؤوس أصابعها كي لا توقظ السكون. في إحدى اللقطات بالأبيض والأسود، ينزرع جسد سونتاغ على الكنبة في شقة نيويوركية. لا اختلاف بين لونها ولون ثياب المرأة التي تتحد ساقها الممدودة مع البياض النازل من النافذة. تصطاد آني لحظات كثيرة للرقود، داخل الجدران؛ يسترخي جسد سوزان على السرير متشابك القدمين، وفي البانيو تتمدد عارية وتغطي نهدها بيدٍ وتترك الثانية على بطنها. جسد مكتنز بالإستسلام، سنراه مجدداً على سرير تلتف عليه أجهزة المرض. كانت ليبوفيتش تبعد بالكاميرا تلك اللحظات المربكة التي تعتريها أمام جسد سوزان المنهك. كأن التصوير تربيت على الكتف. بديل عما لا تقدر عليه أبداً. مهما طالت يداها، فإنهما لن تلامسا المرض الذي في الداخل. ربما بهذه التعويذة، لاحقت سوزان المسجاة أمام الهليكوبتر، قبل ابتعادها إلى مستشفى في نيويورك. وبه تحمّلت آني قصورها حيال فجاجة جسدها الميّت المستسلم على آخر الأسرّة.