■ أين أنتِ الآن؟ رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب | العالمُ الحقير كبيرٌ وشاسع. البَرْد واقفٌ في قلبي. المدينة؟ المدينة لفظة أدبية حلوة إلى حين. أما أنا، فلم يعد يخرق رأسي لفظة واحدة. كأنني شبّيت وراهقتُ وكهلت وهرمت في لحظة واحدة. العالم كلّه تحت حذائي، لكني لا أستطيع أن أقوم من فوقه وأذهب. ماذا تفعلين الآن؟ نمتِ؟ هنيئاً، أتساءل كيف تقدرين؟ أحسدكِ. أحياناً يخيّل إليّ أنني لا أعرفكِ.

أحياناً أكرهكِ. أحياناً كثيرة أحتقر نفسي لأنني أكلّمك عن نفسي. وأحياناً كثيرة أقول إنني أظلمكِ. وأحياناً كثيرة يتولّاني من جديد أملٌ أعمى بأن تستجيبي إليّ. وأحياناً آخذ هذا الأمل معي إلى الفراش، فجأةً، وقبل أن يفتح عينيه أغفو عليه...
هل فقد العالم عقله؟ ربّما.
أنا أيضاً أحب. لكن بشكل آخر. إن جنوني نقيض جنون العالم.
وسأكون، في العالم المجنون، العاقل الوحيد.
4-5/12/1963

■ كلكم ضدّي: قرّاء وأدباء. أجانب وأقارب وغرباء. أصدقاء ونساء. لا أحد معي. أكثر امرأة أحببتُها (لا أعرف إلّا عندما أذكرها أنني لا أستطيع أن أبكي!) أكثر امرأة أحببتها كانت أكثر امرأةٍ خسرتُها. هذه في معادَلتي. حسابي ناجحٌ في الفشل. عقلي راجحٌ في الجنون والخراب والموت. لكن لا أعرف في العالم أعظم من شجاعتي.
إن ما أراه ــ ماذا أقول؟ إنه ما أشمّه وأعيشه وأرافقه، بل إن ما أتنفّسه وأحبل به وأجاريه وأرفضه وأواجهه وألعنه ويقهرني من قذارات هذه الحياة ودناءة النفس البشريّة وخبثها وحقارتها وبرصائيّتها ونفاقها وتمثيلها وأفعوانيتها وبلاهتها وبشاعتها وانخداعها وخداعها وقرفها الرهيب وحبال خسّتها اللامتناهية التركيب والتعقيد والطول والشسوع، إن ما أُعانيه كلّ لحظة، كلّ جزء من اللحظة معاناةً لا توصف من هذا الواقع الذي لم أبلغ يوماً في تصوّراتي إياه ما بلغته في معاركي له خلال سنة، إن ما أعانيه يا أنتِ، أيّتها القابعة كالمارد في علبة الأقزام، يكفي لشلّ أقدر يدٍ وتحطيم أعظم صخرةٍ وخَنْق أغلظ رئتين على الإطلاق. ولا أعرف غير الأعجوبة تفسيراً لبقائي حيّاً. أو لعلّني أعيش فترة وقف التنفيذ. المرحلية المؤقّتة.
أَنتظر.
لا المطر ولا الصباح ولا الأصوات. لا الدفء ولا الدخان. أنتظرُ فقط.
أنتظركِ.

■ لا شيء يبرّر عذابي الآن إلا صدقي، إذا سلّمنا أن الصدق لا بد أن يكون دائماً شهيداً.
أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرت بك تضطرك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشك والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً...
ولماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟ ولماذا لماذا لماذا قلتِ لي ذلك المساء أننا لن نلتقي أبداً ولن نفترق أبداً؟ هل تدركين معنى هذا الجزم؟ هل تدركين مدى تأثيره عليّ لو تيقنتُ نهائياً أنه صحيح؟ ألا تعلمين أنني... ألا تعلمين أنكِ، بهذا الحكم الذي يعني أننا كالخطّين المتوازيين كل منا بجانب الآخر وليس لواحد منا أن يصبّ في الآخر - إنك بهذا الحكم تصدرين بحقي حكم الإعدام؟ ألا تعلمين أنني شحنتُ كل قواي من أجل هذا اللقاء؟ وأن عدم تحقّقه سيقتلني؟ أم أنك واثقة من أنه لن يتم؟ لا يا غادة! لستِ واثقة. كنتِ تتكلمين بمعاني الماضي وأنا لستُ ماضيك. إنني أرد ماضيك على أعقابه. أنا لستُ مثل أحد. لا شيء أفعله مثلما يفعلونه. لا أحد يحب مثلي. لا أحد يحب بقوة ما أحب، بجمال ما أحب، بروعة حبّي وعظمته ونقائه. لم يعد غيري من يحب في العالم. كل ما في هذا العصر من رجال، آلات وجلود وأشباه بهائم. وقد يعرفون كل شيء، إلا الحب. وقد يفهمون كل شيء، إلا المرأة. وقد يميتهم ويحييهم أي شيء إلا الحب وامرأة. لستُ مثل أحد. إنني آتٍ من حيث لا وقت إلا للحب، وها أنا أعيش عصري باحتقاره وضربه على نافوخه، فهو عصرُ المعلّبات والخدع الرهيبة، إنه عصرُ زوال الحب. أعيشه؟ بل أعلّقه على الحائط. إنه نملة شاسعة أدوسها كل لحظة لأقطع منها جزءاً. إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري. إن عصري هو عاري. إنه عاهتي ولحمي الميت، وأنا أخجل به وأكرهه وأفلّت عليه أفكاري القاتلة. وأكثر ما يقتل هذا العصر السافل أنني أعرف كيف أحب، وأنني أحب، وأنني لا أكف عن الحب، وأنني لن أكف عن الحب. إنني أعظم مجرم معاصر. صدقيني. ولا أعرف كيف سيكون أو هل سيكون العصر المقبل؟ غير أنني لا أرى سبباً واحداً للتفاؤل. والواقع أن ذلك لا يهمني. إنني أحب لا نكايةً بالعصر وإنما لأنني عاجز عن العكس. إنني أتحمل حبي.

■ هل ممّا ينتقص من كرامة الإنسان أن يكون بحاجة إلى إنسان آخر؟ ربما لا وربما نعم. لكن المشكلة ليست في الجواب لا أو نعم. فسواء كان الجواب لا أو نعم، يبقى المحتاج محتاجاً. هذه هي المشكلة. لكن لا بأس.
(...)
لو تعلمين إلى أي درجة أنت مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. لقد اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرّة عليك.
هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبّي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبّي.
وأنتِ؟ هل أظل أتحدث إليكِ دون حوار؟
لا. لا. لا يمكن أن يكون العالم قد أقفر إلى هذا الحدّ من الحنان. لا يمكن أن يكون العالم قد خلا هكذا دُفعةً واحدةً من الحبّ.
يمكن؟
فليخلُ. فليخلُ الحبّ من الأرض وليذهب العالم إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبّي على الحجارة. سأحبّ وحدي الموت والأشباح. وسأحبّ النهار أيضاً. وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم الحقير. وسأحبكِ. ولن أقول شيئاً غير هذا.
3-4/12/1963

■ أنتظر.
أنتظرُ أن ينفرج فمُك، أيتها المحجوبة، عمّا أعرف أنه يُحرق أحشائك حيث يختبئ كالحب وكالكراهية معاً. كِلا شيء ثقيل باهظ ككل شيء. أنتظر أن تجيئي إليّ وقد سقطت أوراق الخريف عن باب شفتيكِ، ناضجةً كالنار، يانعةً أنتِ أيضاً بتفاهة هذه العالم وحقارته ونبل أوهامه المبدّدة.
أنتظر أن تجيئيني أنتِ أيضاً، وتقولي لي: أنا أيضاً لم أتزوّج بعد... وأن تفني فيّ.
أنتظرُ أن تخرجي من بين أعدائي، أن تغادري منطقة الحياد، أن تتركي أرض الحذر والماضي وتصبّي فيّ كنهر أصبح يرفض، بكراهية وحب، أن يظلّ محقوناً. أصبح يريد، بكلّ ما فيه من كراهية وحب، أن لا يستسلم لخطر الجفاف والركود والعقم.
نعم أنتظر. ويبدو لي أنني طويلاً انتظرت. وأنني لم أعد أقوى على الانتظار.
وبعد الانتظار، ينتظرني شيء واحد هو الشيء الوحيد الذي يعقب الأمل الأخير. وحين أقول ذلك أقوله بكل هدوء، بمنتهى الاحتقار له، بكل بساطة وخنوع. ينتظرني، إذا لم تمدّي لي خشبة الإنقاذ، الهاوية.
الهاوية؟
كل ما أتمناه أن تتخذَ شكل الموت. لكنني أخشى كثيراً ــ وتأكّدي أن ذلك يرعبني ــ أخشى أن تتخذ الهاوية شكل الجنون لا الموت. إنّ هذا أسوأ ما يمكن أن يحلّ بي. آه! كم أفضّل الموت! كم أشتهيه وأستسهله! كم أتمنى لو تكون لي الشجاعة الكافية لأنتحر! لكنني اختبرت هذه الشجاعة مراراً كثيرة حتى الآن ولم أنجح. تُرى، أأنجح تحت تأثير الهرب من الجنون؟ أم يكون الجنون، بالذات، هو الوسيلة الفضلى للهرب من كل شيء؟

* مختارات من «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان» (دار الطليعة)