رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب | شاعرات أقلّ شأناً، روائيات تائهات، عشرينيات يلتمسن الكتابة، بركاكة لغوية فجّة، يمتلكنَ رسائل ملتهبة على الفايسبوك ما يبزّ غادة السمّان (1942) وعشاقها بمراحل. أسماء كبيرة في الوسط الأدبي اقتحمت الموقع الأزرق في هدر مشاعر محمومة طلباً للوصال، مقابل نشر ترهّات مجهولات في منابر مرموقة.
لكن غبار هذه المعارك لم يخرج إلى العلن، فهنَّ لسن مشهورات كي ينشرنَها في الكتب والصحف. المعركة التي دارت رحاها أخيراً حول «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان» (دار الطليعة ـ 2016) بدت كما لو أنها نسخة ثانية منقّحة من «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان»، ولكن بضجيج أكبر، و«أدبية أقلّ» بتأثير الميديا السائلة، نظراً لارتباكات أنسي، ووحشية حبر غسان. إذ لا يمتلك الأول شجاعة الثاني في انتهاك المحظور، فعبارة مثل «أنت امرأة حقيقية حتى كعب حذائك» تطيح نديّة العاشق، ومراميه الحسيّة المضمرة، وإن جرّب السلاح الاقتحامي في رسائل لاحقة، مموهاً غرائزه ببلاغته العالية، وحاجته إلى العلاج من مرضٍ عاطفي طارئ باغته في ذروة انشغاله العائلي، أو لنقل إنّ هذه الرسائل السبع، كانت تمرينات نقاهة، وبروفات شعرية على مرحلة ما بعد ديوانه «لن». وتالياً، فإن غادة السمّان وقعت هذه المرّة على «طريدة» مسالمة لا تحتاج إلى أنياب حادة لافتراسها «لغوياً»، بالمقارنة مع الطريدة الأخرى، إذ خرج العاشق من الحلبة في الجولة التاسعة مهزوماً، فيما استمر غسان كنفاني في محاولة اقتحام الأسوار وحفر الخنادق بمعولٍ شرس، مراهناً على كسب المعركة، خصوصاً أنّ المعشوقة كانت تترك بعض الثغرات المفتوحة في خطوط دفاعها لتسلل العاشق، وإلا لما استمرت الرسائل زمناً أطول؟

جرأتها لن ترقى إلى جرأة مجايلتها فرنسواز ساغان، أو مارغريت دوراس لجهة المكاشفة والاعترافات وتقشير البلاغة

وقع أنسي في غرام غادة (1963) إثر جلسات يومية في مقاهي الحمرا، لكنه بقي حبّاً سريّاً وعابراً ومحزوناً، إلى أن اقتحم غسان كنفاني المشهد (66/67) بفضائحية أكبر، تبعاً لمحتوى رسائله وصدى رسائلها التي غابت عن الكتاب بذريعة فقدانها. وإلا لكانت صاحبة «عيناك قدري» نوهّت عن مشاعرها هي أولاً، في مقدمة الكتاب، طالما أنّ رسائلها إليه قد ضاعت، كي تستقيم المعادلة قليلاً في تبرير مفردات «معجم التذلل» المبثوثة بين سطور رسائل العاشق. لكن جرأة كاتبتنا لن ترقى إلى جرأة مجايلتها فرنسواز ساغان، صاحبة «مرحباً أيها الحزن» مثلاً، أو مارغريت دوراس في «العاشق» لجهة المكاشفة والاعترافات وتقشير البلاغة. فقط هي مغتبطة بالمتورطين في حبها، سعاة بريد الغرام، من دون أن تكون هي طرفاً آخر، كنوع من العفّة الشرقية في المقام الأول. وإذا بالجرأة التي رافقت كتاباتها مجرد شجاعة بلاغية، ولعب لغوي بالكلمات على غرار معجم نزار قباني، لكن من ضفةٍ مضادة. للحظةٍ ما، ونحن نفحص تواريخ رسائل العاشقين، سنكتشف خلو صندوق بريدها من الرسائل التي تخص عامي 64/ 65 من عاشقٍ متهوّرٍ آخر، ربما كان بدر شاكر السياب أثناء عبوره الخاطف إلى بيروت، من يدري؟ لا نقصد التهكّم هنا، لكننا لن نقع على إجابةٍ شافية تتعلّق بهذا الهوس في نشر رسائل من كاتبوها في غيابهم، وطمأنينتها التامة بأنّ أحداً لن يستل رسالة منها إلى غسان كنفاني تبثه مشاعرها في «فضيحة؟» مقابلة. أما أنّ الأمر برمته محض توثيق أدبي لرسائل كان بالإمكان أن تبقى مجهولة، فلا يعوّل عليه، بصرف النظر عن الحماسة النسوية التي أشعلت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي في الدفاع عن طهرانية غادة السمّان واتهام كل من استهجن نشر الرسائل بالذكورية الشرقية.
هناك ما يمكن تفسيره بما يقع خارج الخطاب الأدبي الصرف، ذلك أنّ صمت صاحبة «ختم الذاكرة بالشمع الأحمر» وانحسار الضوء المشع عنها، بالمقارنة مع بريق حضورها في العقود المنصرمة قادها إلى نفض الغبار عن رسائل أنسي الحاج لاستعادة مقعدها الوثير، بعدما ظهرت أصوات نسائية مهمة وجديّة ولافتة احتلت المشهد الأدبي بقوة، فأزاحتها جزئياً عن الساحة، متناسية أن الصبية السمراء الفاتنة في ستينيات القرن المنصرم بالـ «ميني جوب» والموتوسيكل والصوت المغناج، لا يمكن أن تكون هي نفسها «لوغو» القرن الحادي والعشرين، من دون أن نغمط حقها كرائدة في الكتابة النسوية المتمردة. ذلك أن قرّاء/ قارئات اليوم، وجدوا ضالتهم في نصوص أخريات استثمرن قاموساً أكثر عصرية وجاذبية وحسيّة، يتواءم مع تحولات اللحظة الراهنة لجهة الجرأة واقتحام المناطق الشائكة. ربما ما تعيشه غادة السمّان في شيخوختها، يشبه ما عانته سعاد حسني بعد أفول نجمها، فهي لم تقتنع بأنها لم تعد سندريلا الشاشة. كذلك غادة السمّان، فهي لم تعد «سندريلا الأدب»، وما نشرها مثل هذه الرسائل لضحاياها من العشاق، في زمنٍ متأخر على كتابتها، إلا نوع من العلاجات الإسعافية في ترميم الزمن المعطوب.
أجل هناك ما يهزّ صورة شاعر أليف مثل أنسي الحاج، ليس كذكر مهزوم، بل ككائن هشّ اقتُحمت خصوصيته في حقبة مطوية لم يشر إليها يوماً، ولم يرغب في حياته بتعميمها على الملأ. وتالياً، فإن نشر رسائله بعد رحيله، يقع في باب «كان هذا سهواً» وفقاً لعنوان آخر كتبه، ومن ضفةٍ ثانية، يأتي كتعبير عن نرجسية أنثى كانت مرغوبة في شبابها الحار، بما تتيحه نفحة الحرية التي وسمت بيروت الستينيات، وندرة الأصوات الأدبية الأنثوية المتمردة على الأعراف حينذاك.
اللافت أن هذه الرسائل تعتني بغادة الأنثى المشتهاة، لا الكاتبة المتمرّدة، وهو ما ينفي الحضور الأدبي أولاً لقيمة هذه الرسائل، وفق بعض المنافحين عن نشرها «أشعر بجوع إلى صدرك، بنهم إلى وجهك ويديك ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك» يقول. لكن ما العيب في الشيخوخة؟ لماذا تصر غادة السمّان على أن توقف عجلة الزمن عند شبابها الآفل، ولماذا ترفض أن تهدي قراءها اليوم صورة حديثة لها؟ أجل ليس لدينا في الأرشيف سوى صورة بالأبيض والأسود لغادة السمّان العشرينية المثيرة، وأخرى ملوّنة بصحبة كتبها وبومتها الأثيرة. ألم يلتقط لها مصوّر صحافي صورة حديثة؟ طيّب، ألا تتوافر نسخة من صورة حديثة ولو كانت تخصّ جواز سفرها؟ ألم تفكّر محطة فضائية في استضافتها؟ نقول ذلك بأسى عن كاتبة لا يمكن تجاهل إسهامها في المدوّنة الأدبية العربية. أما أن تتحوّل إلى كائن افتراضي بسحنة غامضة، فذلك ما يدعو إلى التساؤل والحيرة والأسف. ربما علينا أن نستعيد اعترافاً قالته سيمون دوبوفوار كإجابة عن سؤال وجه إليها بعد نشر مذكراتها: «ألم تندمي على إخفاء معلومة ما في مذكراتك؟». أجابت: «أجل، كان عليّ أن أذكر تفاصيل علاقة مثليّة عشتها مع إحدى طالباتي في الجامعة!». ليست محاكمة ذكورية لصاحبة «اعتقال لحظة هاربة»، كما سيفسّرها بعضهم على عجل، لكننا نرغب أن نقرأ يوماً «رسائل غادة السمّان إلى...» كي تكتمل الصورة الناقصة لصاحبتها المحتجبة المتوارية، بقدر بسالتها في استثمار رسائل قديمة مصفرّة كتعويض عن وحدة امرأة سبعينية غامضة. لكن مهلاً، ماذا لو كشفنا الغطاء عن رواية لم تنل حظها من الشهرة، كتبها الروائي السوري عبد الكريم ناصيف، وصدرت قبل ثلاث سنوات بعنوان «النمس والأفاعي» (دار التكوين - دمشق)؟ كنت أنوي تجاهلها لظني بأنها تسيء إلى غادة السمّان بوصفها إحدى شخصيات الرواية، ذلك أن شخصية «ميادة» الدمشقية المستهترة في الرواية تحمل ملامح غادة السمّان تماماً، فالروائي يشير صراحة إلى كتابها «أعلنت عليك الحب» بالاسم، وإلى أنها أسست دار نشر باسمها في بيروت، وتزوجت ناشراً معروفاً، قبل أن يصفها بأنّها «ترتدي جلد أفعى»، و«جسدها موقد نار، لذلك تبحث دائماً عن مطفأة»، وهي من علّمت بطل الرواية «النمس» قواعد «النفّري» السبع والأربعين الجنسية وتطبيقها معه ببراعة، بالإضافة إلى «فضائح» أخرى. سيحتج كثيرون- أنا واحد منهم- على تعرية الحياة الشخصية لكاتبة على هذا النحو، بما يتماثل مع احتجاجنا على نشر رسائل عشّاق غادة السمان على حبل غسيل مهترئ تحت بند التوثيق الأدبي وحسب.