تترك السيارة مدينة السفيرة وراءها لنواصل طريقنا نحو مدينة حلب. تلمّس نتائج التطوّرات الأخيرة في المدينة والتي أفضت إلى استعادة الجيش السيطرة على كل أحيائها (باستثناء أجزاء من حي الزبديّة) يصبحُ متاحاً من هنا: «من أي طريق بتحبوا ندخل؟» يسأل السائق.
التحوّلات الكثيرة التي شهدتها خريطة السيطرة في «عاصمة الشمال» على امتداد الحرب دائماً ما كانت تترك بصمتَها على الطرق المتاحة للوصول إليها. حتى وقت قريب، كان المدخل الوحيد المُتاح (بالنسبة إلى القادم من مناطق سيطرة الدولة السورية) هو عقدة الراموسة الشهيرة. عُلّقت صلاحيتها لأداء هذه المهمّة في الثامن من آب الماضي مع نجاح المجموعات المسلحة في إحداث «ثغرة الراموسة» في «طوق حلب»، ليحلّ محلّها محور «الكاستيلّو» مؤقّتاً، قبل أن تعود الأمور إلى نصابها مع فشل «غزوة إبراهيم اليوسف» في تحقيق أهدافها، وترجع الراموسة بوّابة لحلب.
اليوم، تغيّرت الحال من جديد، صارت المفاضلة متاحة بين خيارات عدّة. اللافتات الدلاليّة حولنا تشير إلى وجهات كثيرة، بعضُها ما زال بعيداً لا بحساب الجغرافيا فحسب: منبج (ريف حلب الشمالي الشرقي تحت سيطرة «قوات سوريا الديموقراطيّة»)، جرابلس (ريف حلب الشمالي الشرقي تحت سيطرة «درع الفرات» التركي)، إدلب (تحت سيطرة «جبهة النصرة» وشركائها في «جيش الفتح») وباب الهوى (تحت سيطرة «حركة أحرار الشام الإسلاميّة»). نقرّر تجاوز جبرين (حيث يقبع آلاف الخارجين من الأحياء الشرقيّة) والمضي في محاذاة منطقة النقّارين، وصولاً إلى الحلوانيّة، عن يسارنا منطقة سكن الشباب وعن يميننا مدينة هنانو لندخل المدينة عبر جسر الصاخور. والمناطق الأخيرة تصدّرت نشرات الأخبار قبل فترة قصيرة مع أنباء استعادة الجيش السوري لها تباعاً. يقول السائق «يا خيّو والله بحياتنا ما كنّا نصدّق إنو حلب رح ترجع. بس شي متل الحلم، رجعت بغمضة عين متل ما راحت بغمضة عين...». بين «الغمضتين» سنوات من الموت والدمار والتشريد والنكبات. بصمات الحرب الأوضح للعيان تتجلّى في حجم الخراب الهائل أنّى أرسلتَ نظرك. ثمّة بصمات أخرى أعمق وأخطر، لكنّها تحتاج الى وقت لتعبّر عن نفسها. أبو أحمد (السائق) واحد من أبناء هذه الأحياء، كان يسكن في حي الكلّاسة، يمتلك مصنعاً في حي الشّعّار، وبيت أهله في مدينة هنانو. أخرجته الحرب وعائلته، وأعادته الحرب مجدّداً، شأنه شأن كثيرين. لا يمكن تجاوز هذا التفصيل من دون أن تفرض مفارقة مرعبة ذاتها، ففي الوقت عينه ثمّة عائلات أخرى من أبناء هذه الأحياء خرجت هاربةً على وقع التطورات وترى أنّ «حلب راحت»، ولدى كل من الطرفين ما يدعم نظرته ويؤكّد أنّه «على حق»!

على خُطى الحرب

تتبع خُطى الحرب سيقودك إلى أنقاض ممتدة على ما يقارب نصف مساحة حلب. نعبر عدداً من الأحياء التي لم تخرج عن سيطرة الدولة السورية: التلفون الهوائي، العزيزيّة، محطّة بغداد والجميليّة. ورغم أنّ مظاهر الدمار لا تقاس بما شهدناه في الأحياء الشرقيّة، غير أن لكلّ من هذه الأحياء حكاياته الكثيرة مع الموت القادم من «هناك». معبر بستان القصر الشهير وجهتُنا التالية. لم يتغيّر شيء حتى الآن في شكل المعبر أو وظيفته، باستثناء توقّف القنّاصين عن ممارسة «عملهم». حركة العبور كبيرة، الداخلون والخارجون بالمئات. وفي الاتجاهين يعبر النّاس محمّلين: الداخلون يصطحبون معهم طعاماً ومياه شرب وسواهما من مقوّمات الحياة، أمّا الخارجون فيحملون أمتعةً وأدوات منزليّة وما شابه.
ندخل مع الداخلين متجاوزين ركاماً هنا، وسواتر ترابيّة هناك. لم يستثن الدمار شيئاً: المدارس، الجوامع، المباني السكنيّة والمحالّ التجاريّة، الحدائق والطرقات، وحتى المقابر! ثمة تباين كبير في حجم الدمار بين الشوارع الرئيسيّة ونظيرتها الفرعيّة. يبدو أن العامل الاقتصادي لعب لمصلحة «الأضعف» هذه المرّة، حجم الدمار في الشوارع الرئيسيّة (التي تكون عقاراتها هي الأغلى عادةً) يفوق بأضعاف حجمه في الشوارع الفرعيّة. وعلى نحو مماثل يتكرّر الأمر بالنسبة إلى سكّان الأقبية مثلاً، إذ لحق الدمار الأكبر بالطبقات الأعلى. ثمّة مبانٍ بأكملها تحوّلت إلى ركام. هنا؛ يبدو مصطلح «البُنى التحتيّة» خيالاً قادماً من الفضاء. الجدران ما زالت محتفظة بما خُطّ فوقها: عباراتٌ إسلاميّة، أسماء «كتائب وألوية»، شتائم للنظام وتمجيد للحريّة، إعلانات تدعو إلى متابعة وسائل إعلاميّة معارضة. على أحد الجدران الباقية من مدرسة اليرموك الابتدائيّة ووسط الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة تحضر الأحزاب الكرديّة «الموت لحزب pkk»، «الموت لوحدات حماية الشعب العميلة» والتوقيع يشير إلى «جيش الإسلام». في حي الكلّاسة، يبدو أنّ آلة الحرب اشتغلت شغلها بـ«إخلاص» أكبر. الشارع الممتد بين جامع جمال عبد الناصر وساحة الأحرار (طوله حوالى كيلومتر واحد) عبارة عن أنقاض تمكنك من رؤية آخره بوضوح وأنت تقف في أوّله، الأمر الذي ينطبق على المسافة الممتدة بين الجامع وباب أنطاكية (في الاتجاه المعاكس). قبل عشر سنوات، كان الحديث في أوجه عن نيات ودراسات لإعادة تخطيط هذه الرقعة التي كانت شديدة الازدحام بعدما فشلت كل محاولات تنظيم السير. (كانت هذه المسافة تشكّل شرياناً أساسيّاً يصل بين وسط البلد وبين عدد كبير من الأحياء: الكلاسة، الفردوس، المغاير، المعادي، جسر الحج وغيرها). في تلك الفترة، كان الاكتظاظ السكاني وتلاصق المباني على طرفي الطريق أبرز المعوقات في وجه أي توسعة على جانبي الشارع أو تشييد جسر أو شق نفق. اليوم، لم يعد أي من تلك المعوقات موجوداً!

سيرة «التعفيش»

معظم الداخلين إلى هذه الأحياء يعبرون بهدف «إنقاذ ما يُمكن إنقاذُه». أبناء الأحياء الذين ابتعدوا عنها لسنوات سارعوا بمجرّد توافر الظروف المواتية إلى تفقّد ممتلكاتهم. سيئو الحظ لم يعثروا إلا على أنقاض، الأكثر حظّاً عثروا على منازل بدمار جزئي، أما المحظوظون فكانت بانتظارهم بيوتٌ معافاة. وتنقسم هذه بدورها إلى قسمين: بيوت بكامل محتوياتها، وأخرى تعاقبت على سرقتها الأيدي في زمن سيطرة «الكتائب والألوية». ومع اكتشافهم أنّ عودة عجلة الحياة إلى الدوران تبدو بعيدة بفعل عدم توافر معظم متطلبات الحياة وانتشار القوارض، قرّر معظم «المحظوظين» العمل على نقل ممتلكاتهم خارجاً لحمايتها من طاعون «التعفيش».

حرم فتح معظم الأحياء أمام المدنيين، «المعفّشين» المحترفين من ممارسة عملهم
يومان فصلا بين معاينة ربيع الأولى لمنزله، وبين قراره نقل محتواه (أو ما بقي منه). يقول الرجل لـ«الأخبار» إنّه لم يصدق نفسه حيت وجد البيت كما تركه «ما نقص منو شي». أقفل الرجل منزله وعاد ليزفّ البشرى إلى عائلته، حين عاد في اليوم التالي برفقة زوجته شاهد باب البيت مخلوعاً، وقد أُفرغ من كثير من محتوياته. تختلف موجة «التعفيش» الراهنة عمّا سبقها من موجات في وجوه عدّة. فتح معظم الأحياء أمام المدنيين بمجرد استعادة الجيش لها وفي وقت متزامن حرم «المعفّشين» المحترفين من ممارسة العمل منظّماً و«على أصوله». لكنّه ساهم في الوقت نفسه في إتاحة الفرصة أمام بعض المدنيين للمشاركة في السرقات في ظل غياب أي ضوابط أو آليات تُنظّم دخول الناس إلى المنازل. وبات متاحاً لأيّ مدني أن يدخل أيّ بيتٍ خالٍ من السكّان وينتقي ما «يناسبه» من الغنائم، شريطة أن تكون مما يمكن حمله على الأكتاف، فإخراج الأحمال بواسطة السيارات يحتاج إلى توافر شروط كثيرة! «المعفّشون» التقليديون من حملة السلاح لم يختفوا من المشهد تماماً. أحد المناظر الأكثر انتشاراً سيكون رؤيتك لشابين أو ثلاثة يستقلّون دراجة ناريّة يقودُها أحدهم، فيما يمسك من يجلس خلفَه بأسطوانتي غاز تشكلان غنيمة سهلة النقل. لكنّ المحترفين لم يعدموا الوسيلة لإيجاد «غنائمهم». وإذا كان توافد السكان إلى منازلهم قد قلّل من فرص إفراغها عن بكرة أبيها، فالأمر لا ينطبق على الممتلكات العامّة. يبدو المشهد الذي عاينّاه مقتطعاً من فيلمٍ ما: تقف سيارة بيك آب بجانب خزّان الكهرباء، يترجّل منها أربعة أشخاص، وبسرعة واحترافيّة يتمّ تشغيل مولّد كهرباء كان بحوزتهم، يمسك أحدهم مقصّ معادن كهربائيّاً (يُعرف باسم صاروخ) يقصّ القفل، يدخل اثنان إلى داخل الخزّان ويبدأ تفريغ النحاس! بين «العدّة» تحتوي السيارة على ميزان إلكتروني، يوضع النحاس فوقه، يُضبط وزنه، ويجري متزعم المجموعة اتصالاً هاتفيّاً للاتفاق على سعر الكمية ومكان تسليمها، العمليّة بأكملها تستغرق نصف ساعة فقط! يحوي كلّ خزّان قرابة ثمانين كيلوغراماً من النحاس تُباع تمهيداً لصهرها بعشرات آلاف الليرات (حسب البازار)، أما تكلفة إنشاء الخزّان الواحد فلا تقل عن 150 مليون ليرة سوريّة! المنطقة الصناعيّة في حي الكلاسة تُشكّل «منجماً» محتملاً لمحترفي السرقة والنهب. حتى الآن، لا يمكن الوقوف على واقع الأمر في المنطقة، فالدخول إلى معظم أجزائها ممنوعٌ «بسبب عدم خروج كل المسلّحين من حي الزبديّة، ما يؤهلهم لقنص الشوارع الرئيسية في المنطقة» حسب ما يخبرنا أحد أصحاب المعامل. يقول الرجل «ننتظر الفرج، ونأمل أن ندخل ونرى آلاتنا في انتظارنا».




«قبل أن يقع الفاس بالراس»

لا سيارات كثيرة تجول في الأحياء الشرقيّة. أحوال الشوارع المزرية، وعدم إزالة الركام والسواتر الترابيّة من مداخل الأحياء تلعب دوراً أساسيّاً في ذلك. الطريق المفتوح الأصلح يعتمد على حي الشعّار. تُشكّل هذه التفاصيل عقبةً أمام الراغبين في نقل أثاث بيوتهم. وينبغي على هؤلاء التقدّم بطلب خطي إلى محافظة حلب، مرفقاً مع ما يثبت الملكيّة. تحيل المحافظة الطلبات إلى اللجنة الأمنية المخوّلة بمنح الموافقات. وتستغرق هذه العمليّة وقتاً غير قصير. وكالعادة، ثمّة دائماً حلول ملتوية تبدو خياراً لاستغلال الوقت وإنجاز النقل سريعاً «قبل أن يقع الفاس بالراس». يأخذ عدد من سائقي سيارات النقل على عاتقهم تأمين مرور سيارات بما تحمله عبر الحواجز من دون موافقة نظاميّة. نفتح مفاوضة وهميّة مع واحد منهم، فيقول باختصار «25 والحواجز عليك، و40 إذا الحواجز علينا». وبمعنى أوضح: يبلغ متوسط أجور النقلة الواحدة لسيارة سوزوكي صغيرة 25 ألف ليرة في حال وجود الموافقة، وما يتراوح بين 35 و50 ألفاً في حال عدم وجودها.