حملت التطورات التي شهدتها مدينة حلب خلال الأشهر الماضية عناصر جديدة إلى واجهة المشهد السوري المعقد. ولعلّ أبرزها كان بروز تنسيق ثلاثي مشترك بين موسكو وأنقرة وطهران، حيّد التجاذب الروسي ــ الغربي، وأسفر في نهاية المطاف عن اتفاق التسوية الأخير في حلب. ويشير البيان المشترك الذي خرج أمس، عقب الاجتماع الوزاري الثلاثي في موسكو، إلى احتمال تبلور نتائج جديدة مؤثّرة ضمن مسارات الحل السوري.
ورغم التباين الذي يميّز مواقف العواصم الثلاث، فقد تمكّنت من إصدار بيان مشترك يركّز على التقاطعات المشتركة، على حساب النقاط الخلافيّة، ويؤسس لإطلاق منصة جديدة لاحتضان مفاوضات سوريّة في كازاخستان مدعومة بمبادرة لتوسيع وقف إطلاق النار ليشمل كامل الأراضي السورية.
الاجتماع ضمّ كلاً من وزراء الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والإيراني محمد جواد ظريف، والتركي مولود جاويش أوغلو، إلى جانب وزراء دفاع البلدان الثلاثة. وخرج ببيان مشترك وقّعت عليه الأطراف الثلاثة. ولعلّ أبرز ما جاء فيه، تأكيد كلّ من «إيران وروسيا وتركيا، مجدداً، العزم على محاربة مشتركة لتنظيمي (داعش) و(جبهة النصرة)، وعلى فصل جماعات المعارضة المسلحة عنهما». وهي نقطة قد تضع علامات استفهام كبيرة حول الاستعداد والمدى الذي ستذهب فيه أنقرة في «محاربة النصرة» تحديداً.
ولفت الوزراء في بيانهم إلى «استعدادهم لتسهيل وضمان الاتفاق المحتمل، الذي سيجري التفاوض عليه بين الحكومة السورية والمعارضة»، داعين «جميع الدول الأخرى التي تملك تأثيراً على الأرض إلى فعل الشيء نفسه». كذلك أوضح البيان أن الأطراف الثلاثة «تعتقد بقوة أن هذه الاتفاقية سيكون لها دور محوريّ لخلق الزخم اللازم لاستئناف العملية السياسية في سوريا، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254»، مشيراً إلى «الدعوة الكريمة من رئيس كازاخستان لاستضافة الاجتماعات ذات الصلة في أستانة». وركّز البيان في مطلعه على تأكيد «الاحترام الكامل لسيادة واستقلال ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية، كدولة متعددة الأعراق، متعددة الأديان، غير طائفية وديموقراطية وعلمانية»، مشدداً على «قناعة إيران وروسيا وتركيا بعدم وجود حل عسكريّ للصراع السوري».
كذلك، أبدى الوزراء ترحيبهم بـ«الجهود المشتركة في حلب الشرقية، والسماح بالإخلاء الطوعي للمدنيين والمغادرة المنظّمة للمعارضة المسلحة، وبالإخلاء الجزئي للمدنيين من كفريا والفوعة والزبداني ومضايا، وتعهّدوا بضمان إنهاء هذه العملية دون عراقيل وبطريقة آمنة». واتفقوا على «أهمية توسيع وقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق، إلى جانب حرية تنقل المدنيين في جميع أنحاء البلاد».
وعلى الرغم من أن البيان يبيّن ويوثّق صيغة تفاهم وتعاون بين البلدان ضمن مسار الحل السوري، فإنه يخضع لاختبار قابلية الأطراف الموقعة على حلّ النقاط الخلافية. وشكّل اللقاء والمؤتمر الصحافي الذي تلا إعلان البيان، فرصة لتوضيح بعض تلك النقاط العالقة، إذ دعا وزير الخارجية التركي إلى بذل جميع الجهود لتوسيع وقف إطلاق النار ليشمل كامل الأراضي السورية، مشيراً إلى أنه «لن يشمل المنظمات الإرهابية مثل (داعش) و(النصرة)، التي سنواصل مكافحتها. كما يجب قطع الدعم عن بعض المجموعات الوافدة إلى سوريا من الخارج مثل حزب الله اللبناني والمجموعات الأخرى».
الغمزة التركية لقيت ردّ فعل إيرانياً مباشراً، إذ أوضح ظريف أن «بلاده تحترم مواقف أنقرة، بما في ذلك موقفها من حزب الله، لكن هذا الموقف ليس مشتركاً بيننا»، لافتاً إلى «أننا نتحدّث (في البيان) عن الجماعات التي صنّفتها الأمم المتحدة كجماعات إرهابية، وهي (داعش) و(النصرة) والجماعات المرتبطة بهما». أما الجانب الروسي، فقد علّق على القضية من باب التأكيد على التقاطعات، إذ قال لافروف إن «الوضع في سوريا معقد للغاية... غير أن الجميع باتوا يميلون إلى فكرة بديهية، مفادها أن الأولوية الرئيسية ليست تغيير النظام، بل مهمة تحييد الخطر الإرهابي»، مشدداً على أن «هذه الفكرة على وجه التحديد، مشتركة بين موسكو وطهران وأنقرة». وأشار إلى عزم الدول الثلاث على توسيع وقف إطلاق النار في سوريا، موضحاً أنه «لا يجوز التخلي عن نتائج الجهود الروسية ــ الأميركية» في هذا المجال.
كذلك، شهد المؤتمر إشارة واضحة من جاويش أوغلو، لناحية نيّة بلاده استكمال عمليتها قرب مدينة الباب الاستراتيجية ضد تنظيم «داعش»، ليعود ويضيف أنه «بعد العملية العسكرية هناك، سيكون مفيداً ترك المدينة لأهلها. هذا هو الهدف»، وفق ما نقلت عنه وكالة «ريا نوفوستي» الروسية.

تمكّنت العواصم الثلاث من إصدار بيان يركّز على التقاطعات المشتركة


وقد لا يخرج كلام جاويش أوغلو حول استكمال عملية «درع الفرات» عن إطار المشاحنة مع طهران، التي بدورها وضعت جزءاً من اللقاء في سياق مختلف عن الرؤية التركية، إذ نقلت وكالة «تسنيم» عن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، قوله إن مشاركة تركيا «من شأنها أن تكون مؤثرة في توفير الأرضية اللازمة بغية إنهاء احتلال تركيا لبعض الأراضي السورية وإعادة النظر في سياساتها السابقة حول دعم المعارضين السوريين المسلحين». وأضاف أنه «برغم أن هذه الحوارات وتبادل وجهات النظر بين اللاعبين الرئيسيين في الأزمة السورية من شأنها التأثير على التخفيف من أبعاد التوتر، لكن هكذا اجتماعات لا ينبغي أن تفهم من قبل بعض الدول كأداة للمماطلة بغية استمرار سياساتها السابقة».
وبدا لافتاً في كلام شمخاني تأكيده استمرار التعاون الروسي ــ الإيراني المشترك «برغم مساعي الأعداء المستمرة لإحداث خلل» فيه، إلى جانب توضيحه أن طهران وموسكو لهما «مقر مشترك في سوريا، حيث تقوم فيه إيران عبر المساعدة الروسية بتقديم العمل الاستشاري لمساعدة الجيش السوري وقوات المقاومة، ونحن لدينا عمل مشترك بمركزية العراق وسوريا وإيران وروسيا لمواجهة الإرهاب في أبعاده العسكرية، حيث إن بعض الأحداث التي كان أبرزها استخدام الأجواء الايرانية وعبور الطائرات منها، تتماهى مع هذا الاتفاق». ومع التأكيد أن التحالف الإيراني ــ الروسي مستمّر واستراتيجي، لفتت تصريحات شمخاني حول قرار مجلس الأمن بشأن وجود مراقبين أمميين في حلب، إلى تباين في المواقف مع موسكو التي ساهمت في تعديل القرار واعتماده. وفي هذا السياق، رأى شمخاني أن القرار «2328» الصادر عن مجلس الأمن «يعتبر خطوة في مواصلة الأعمال المخرّبة السابقة، ويمهّد لدخول العناصر الاستخباراتية والعسكرية الداعمة للإرهاب إلى حلب في إطار قوات مراقبة دولية»، مضيفاً أنه «لا يرى في هذا القرار أي دور للحكومة السورية الشرعية».
وعقب انتهاء اللقاء الثلاثي، أشار نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، إلى أن بلاده أبلغت جميع الأطراف المعنيين بنتائج لقاء موسكو الثلاثي، مؤكداً خلال حديث صحافي وجود اتصال حول هذا الموضوع مع فرنسا والصين، والدول الأخرى «التي تلعب دوراً بالغ الأهمية في الأمور الدولية والإقليمية، بما في ذلك البحث عن الحلول الأفضل لعقبات تسوية الأزمة السورية». ونقلت قناة «روسيا اليوم» عن بوغدانوف قوله إنه «سيتمّ إبلاغ الولايات المتحدة بنتائج اللقاء، في حال أبدت اهتماماً بها».
وضمن هذا الإطار، أطلع لافروف نظيره الأميركي جون كيري، خلال اتصال هاتفي، على نتائج اللقاء الثلاثي في موسكو. وأوضحت وزارة الخارجية الروسية، في بيان، أن الاتصال الذي جاء بمبادرة أميركية، بحث «التسوية في أحياء حلب الشرقية... وقضية استئناف العملية التفاوضية بين الأطراف السورية دون شروط مسبقة». وأوضح البيان أن لافروف أبلغ كيري «بخطط وضع اتفاق بين الحكومة السورية والمعارضة، وإجراء مفاوضات في العاصمة الكازاخستانية، أستانة».