ما تشهده حلب حالياً هو تطوُّر جديد في سياق الأطوار المختلفة التي تشهدها الأزمة السورية، وآخرها التحوُّل من أزمة نظام بمفرده إلى مجموع أزمات الأنظمة التي تحكم البلد حالياً. وهي نُظُم غير منفصلة عن الشرط الدولي المعقّد الذي يُخضعها لتدخّلاته وينحاز في ظلّ تعدد الشرعيات الاجتماعية التي تحوزها إلى أكثرها قبولاً «بإملاءاته».
وغالباً ما تكون هذه «الإملاءات» متوافقة مع الحلول المقترحة والممكنة لإنهاء الحرب والتي تشترط وجود نظام أو طرف يقبل بتسوية لا تكون على حساب أحد، وتحافظ في الوقت ذاته على البنية الاجتماعية السورية كما عرفناها في العقود الماضية. وإذا نظرنا إلى هذه الأطراف أو الأنظمة فسنجد أنّ أكثرها قابليةً للتفاوض هو النظام الحالي - رغم قمعيته الشديدة- بالإضافة إلى الإدارة الذاتية التي أنشأها الأكراد في الشمال والشمال الشرقي من البلاد. باقي الأنظمة لا يتوافر فيها الحدّ الأدنى من «التعددية الاجتماعية» الموجودة في مناطق السلطة والأكراد، وهي تخضع فضلاً عن ذلك إلى سلطات وهابية (النصرة وداعش) تحتكم للشريعة في إدارة شؤون «سكّانها»، وهذا يتعارض أصلاً مع فكرة التسوية التي تقضي بإقامة دولة «مدنية» لا تميّز بين السوريين على أساس العرق أو الدين أو الطائفة.


غياب السوريين عن المعادلة

قد لا تكون هذه القراءة مطابقة للواقع تماماً ولكنها تعبّر عن فحوى التوافق الدولي على إنهاء الحرب لمصلحة تسوية يمكن إبرامُها. وفي هذه التسوية لا يجب أن يكون هنالك نظام يرفض باستمرار ما يُعرض عليه من شروط وهي حال مناطق المعارضة التي تخضع جزئياً أو كلياً لسلطة النصرة وتأتمر بأمرها. لا معنى حقيقياً هنا لإرادة السوريين التي خرجت من المعادلة تماماً لمصلحة قوى تابعة إما لروسيا وإيران أو لأميركا وتركيا ودول الخليج، وبخروجها انتهى الطور الذي كان يمكن فيه لعموم السوريين ادعاء القدرة على الفعل، وما يترتّب عليها من أفعال ندامة حين يخسرون جولة أو معركة ما.

لا معنى لإرادة السوريين التي خرجت من المعادلة لمصلحة قوى تابعة

من هنا فإنّ هامشيتهم في معركة حلب وانعدام قدرتهم على التأثير في مجرياتها إلا من خلال التفجّع على مصيرها هو الفعل الأكثر موضوعية والأكثر تعبيراً عن وزنهم الحالي في المعادلة. الخروج من المعادلة هنا يعادل الهزيمة تماماً، ويسمح للقوى التي تدير المعركة باستكمال شروط إنهائها بالشكل الذي تريد ومن دون رقابة حقيقية على سلوكها. وهي حين تفعل ذلك تعلم أنها تتصرّف في ضوء موازين قوى تتغيّر باستمرار، وتسمح في ضوء هذا التغيُّر لأطراف غير ممثِّلة فعلياً للسوريين بالحضور في المعادلة على قاعدة المشاركة في المعركة أو «النصر»، في حين أن الأطراف الأخرى الممثِّلة حقّاً استُبعدت إما بسبب هزيمتها الميدانية أو لأنها اختارت المنفى طوعياً وتركت لغيرها فرصة ملء الفراغ والاستفادة القصوى من غيابها عن الفعل والتأثير.


مستقبل الصراع والتسوية بعد حلب

في هذه الحالة تتغير شروط التسوية تلقائياً، ويصبح الحضور فيها مصحوباً بأرجحية للقوى التي انتصرت في الميدان ولم تجد من يواجهها حتى من الدول التي كانت تدعم المعارضة في السابق. من هنا نفهم «السهولة» التي أُديرت بها معركة الأحياء الشرقية بعد تراجع تركيا عن دعمها للمعارضة لقاءَ ضمانات روسية بعدم ثنيها عن المضيّ في معركة قضم الشمال السوري. خسارة المعارضة لهذا الدعم ستُترجم بحضور أقلّ لها على مائدة التفاوض في مقابل تزايد حضور النظام وحلفائه إلى جانب المعارضة المدعومة من روسيا وإيران. ولكن في مقابل هذا وذاك ثمّة غموض يحيط بالحضور الكردي هنا، فالاتحاد الديمقراطي الذي كان مُستبعَداً من الحضور في مفاوضات جنيف الأخيرة بسبب فيتو تركي يحظى بتشجيع روسي، وكان له وجود دائم في معظم الموائد التفاوضية التي أدارتها موسكو، ولكن الظروف قد تغيّرت الآن بعد حصول التفاهمات الكبيرة بين الروس والأتراك، وما رافقها من تسهيل موسكو لعملية التوسّع التركي في الشمال على حساب الأكراد. ولذلك تبدو حظوظ هؤلاء في التمثيل بعد حلب أقلّ حتى من حظوظ المعارضة التي هُزِمت هناك، وثمّة مؤشّرات على أنّ حضورهم سيكون أقرب إلى واشنطن منه إلى موسكو، على الرغم من حرص الروس الدائم على التلويح للجميع بما في ذلك حلفاؤهم الأتراك بورقة التمثيل الكردي. كلّ ذلك يضفي مزيداً من التعقيدات على التسوية، رابطاً إياها بمصير التحالفات التي تتغيّر باستمرار مع كلّ معركة يشهدها الميدان، وهو حالياً في انتظار التفاهمات الروسية ــ التركية ــ الإيرانية التي ستحدّد مستقبل الحرب بعد انتهاء معركة حلب، ومعها وجهة التسوية المقبلة وحجم التمثيل الذي ستحظى به القوى المختلفة، سواءً تلك التي خرجت من المعادلة أو التي دخلت إليها. وهذا لا يتعارض تماماً مع المسار الذي تقوده الولايات المتحدة والذي سيشهد على الأرجح تطوّرات مرتبطة بمعركة الرقّة التي تحوّلت بعد خسارة واشنطن لأوراقها في حلب إلى الوجهة الوحيدة المتاحة للتفاوض مع الروس على حجم المساهمة الأميركية في صياغة النظام السياسي المقبل في سوريا. ثمّة تقاطع في المسارين على إنهاء حالة داعش ولكن الاختلاف يكمن في الأدوات التي سيستخدمها كلّ طرف، فروسيا استفادت من معركة حلب لتطوير أدواتها بينما فقدت الولايات المتحدة مزيداً منها ولم تعد تملك إلا الورقة الكردية، ولا نعرف إن كانت إدارة ترامب ستتابع استخدامها كما كانت تفعل إدارة أوباما أم أنها ستتفق مع الروس على صيغة جديدة لإدارة الصراع ضد داعش، وفي هذه الحالة قد لا يكون الأكراد جزءاً أساسياً من حالة المواجهة كما كانوا من قبل.

خاتمة

في كلّ الأحوال تبقى التسوية هي الثابت الوحيد، والتغيّرات التي تطرأ على المشهدين السياسي والميداني لا تؤثر عليها إلا بمقدار معين، هو مقدار حضور بعض القوى أو غيابها. طبعاً هذا يؤثر سلباً على التمثيل السياسي ويمنع بعض الشرائح السورية من الحضور في العملية التفاوضية ولكنه لا يعرقل التسوية إلا بحدود، وأحياناً يجعلها أقلّ إنصافاً للمهمّشين الذين ثاروا معتقدين بقدرة ثورتهم على انتزاع حضور أكبر لهم في المشهد، لكن مجريات الحرب عاكستهم، وفرضت عليهم الانكفاء، والاكتفاء بدلاً من انتزاع تنازلات حقيقية من النظام لقاءَ تضحياتهم بمشهد التكدّس في الباصات في انتظار المحطة المقبلة لنزوحهم.
* كاتب سوري